قبل نحو ثلاثة أعوام، طالب الرئيس الفرنسي، ماكرون، بالتفكير في إنشاء قوة مسلحة أوروبية أقرب ما تكون إلى جيش يعمل بعيدًا عن وصاية الناتو.
كان ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، خلال مقابلة لـ"ماكرون" مع محطة الإذاعة الفرنسية "أوروبا 1".
وجهة نظر "ماكرون" وقتها دارت حول توفير مزيد من الحماية للأوروبيين، بعيدًا عن ضغوط الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والذي ما انفك يمارس الضغوطات على الجانب الأوروبي من الناتو، مطالبًا بمزيد من إسهامات دول أوروبا المالية في الحلف، وبنسب معينة من الناتج القومي لكل دولة منها على حدة، الأمر الذي اعتبره الأوروبيون من غير مواراة ولا مداراة نوعًا من أنواع الابتزاز.
قبل صيحة "ماكرون"، التي قال فيها: "نحن لا نحمي الأوروبيين، إذا لم نقرر أن يكون لنا جيش أوروبي حقيقي"، ببضعة أشهر، أعلن الاتحاد الأوروبي عن توقيع 23 عضوًا، من إجمالي 28 هم عدد كامل أعضائه، على اتفاقية "بيكو"، أي اتفاقية التعاون الدفاعي المُنظَّم، والتي توصف ربما تأدُّبًا بأنها "ذات مهامٍّ تكميلية لحلف الناتو وليست بديلاً عنه"، وإنْ جاءت تصريحاتُ فيدريكا موغيريني، الممثلة العليا للسياسات الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي وقتها، لتشي بغير ذلك.
مهما يكنْ من أمر الحديث، الذي دار الأعوام الثلاثة المنصرمة، فها هو الملف يُعاد طرحه وبقوة هذه الأيام، ومردّ ذلك لا يغيب عن ناظرَيْ أحد، ذلك أنّ الانسحاب الأمريكي المرتبك والمضطرب على هذا النحو من أفغانستان دقَّ نواقيس الخطر في العواصم الأوروبية، التي ربما تجد ذواتها أمام موجة قادمة من المهاجرين الأفغان، أولئك المرجَّح أن تفتح لهم تركيا بواباتها في مواجهة أوروبا، لتصيبها بِشَرٍّ أعظم مما جرى لها في زمن الربيع العربي المغشوش.
في أوائل شهر سبتمبر/أيلول الجاري، أقر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بأن الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان "سيحفز" الاتحاد على إنشاء قوته العسكرية الدائمة لتطوير دفاعاته المشتركة، وذلك رغم سنوات من النقاش غير المثمر والمعارضة من الدول الأعضاء، داعيًا إلى تشكيل قوة للرد السريع في إطار ذلك.
يبدو المشهد هنا متجاوزًا الخلاف مع رئيس أمريكي، كما كانت الحال مع "ترامب"، حول قضية الإسهامات المالية، ليصل إلى المخاوف الحقيقية من أن يعلو صوت الانعزاليين الأمريكيين إلى أبعد ممّا هو حادث الآن، بمعنى ألا تكتفي قيادات أمريكية قادمة، عما قريب، بالانسحاب من مواقع ومواضع النفوذ في نقاط ساخنة حول العالم، بل ربما تذهب في طريق التحلل من التزامات الدفاع المشتركة عن أوروبا، تلك التي ارتبطت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، واستمرت طوال أربعة عقود للحرب الباردة، وبقيت بدرجة أو أخرى خلال ثلاثة عقود للنظام العالمي الجديد لصاحبه جورج بوش الأب، قبل أن يكتب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان حتمًا نهايته، ويخلق تساؤلاً عميقًا في الأفق عن مستقبل الهيمنة الأمريكية، أو أفول القُطبية، التي سادت في الأعوام الثلاثين الماضية.
هنا يبدو من المؤكَّد أن مخاوف الأوروبيين باتت ترتفع إلى عنان السماء من أن يضحوا يومًا ما في مواجهة منفردة مع مصائرهم وأقدارهم.
وربما لهذا بدأ نفر غير قليل من القيادات الأوروبية التاريخية في إعادة قراءة الفكرة الأوراسية مرة جديدة، تلك التي شاغبت مخيلة الرئيس الفرنسي الأشهر، الجنرال شارل ديغول، والذي اعتَبَرَ ذات يوم أن هناك إمكانية لكيان جغرافي يمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى جبال الأورال شرقًا، أي إمكانية التعاون الأوروبي الروسي بنوع خاص، وهو ما كانت تميل إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
وبدا أن الصين، عند نقطة زمنية بعينها، قريبة من الانضمام إلى هذا التجمع عبر مشروعاتها الممتدة في العمق الأوروبي.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في واقع الحال تسبَّب في زلزال للعلاقات الأمريكية الأوروبية، ومن غير المُصدَّق أن يُستمع إلى التصريحات البريطانية، المثيرة للقلق عن مستقبل الناتو والتمرّد الذي يضرب سفينته، كما كان التمرّد على السفينة "باونتي" في الفيلم الهوليوودي الشهير يومًا ما.
لقد استمع العالم إلى تصريحات وزير الدفاع البريطاني، بِنْ والاس، في دهشة كبيرة، لا سيما حين اعتبر أن الولايات المتحدة "لم تعد قوة عظمى"، ووصفها بأنها "القوة العظمى غير المستعدة للالتزام بشيء ما قد لا تكون على الأرجح قوة عظمى".
تبدو الخطوات الأوروبية في طريق "جيش الشينغين" ماضية قدما وبسرعة غير طبيعية، إذ بدأ وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي مباحثات مكثفة لمناقشة مقترحات تشكيل قوة رد سريع أوروبية، بعد تهميش الكتلة الأوروبية خلال عملية الإجلاء، التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان.
وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، وبعد الاجتماع الطارئ الذي جرى في سلوفينيا، قال: "لقد أظهرت أفغانستان أن هناك ثمنًا لأوجه القصور على صعيد استقلالنا الاستراتيجي، والسبيل الوحيد للمضي قدمًا هو توحيد قواتنا وتعزيز، ليس فقط قدرتنا، ولكن أيضًا إرادتنا للتحرك".
الصوت الأوروبي اليوم يكاد يخلص إلى ما خلص إليه "بوريل": "إذا أردنا أن نكون قادرين على التصَرُّف بشكل مستقل وألا نعتمد على الخيارات التي يتخذها الآخرون، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم أصدقاؤنا وحلفاؤنا، فعلينا أن نطور قدراتنا الخاصة".
يَعِنّ لنا هنا أن نتساءل: هل نحن على مقربة من نهاية حلف الناتو؟ وهل هناك في قيادات الحلف مَن يستشعر نوعًا كبيرًا من الخطر الداهم القائم والقادم في آنٍ؟
يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، وهو ما تمثل في تصريحات الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، لصحيفة "صاندي تليغراف"، والتي قال فيها: "أرحب بالجهود الأوروبية في مجال ضمان الدفاع، لكن شيئا مماثلا لن يحل محل الناتو، وإضافة إلى ذلك، من الضروري أن نضمن وقوف أوروبا وأمريكا الشمالية بجانب بعضهما، وستؤدي أي محاولة لإضعاف صلة أمريكا الشمالية بأوروبا، ليس إلى إضعاف الناتو فحسب، بل إلى تقسيم أوروبا، وذلك بسبب الأموال جزئيا، لأن 80% من تكاليفنا الدفاعية تأتي من حلفائنا من غير أعضاء الاتحاد الأوروبي".
يلفت الانتباه في حديث "ستولتنبيرغ" أمران: الأول هو المالي، والإشارة لا تخطئها العين لما تتحمله واشنطن ولندن بنوع خاص في موازنة الحلف، والأمر الثاني العسكري، وهو ما يفتح المجال للتساؤل: هل أوروبا قادرة على تعويض الناتو حال تفككه إذا قُدِّر لها يومًا ما مواجهة روسيا أو الصين؟
يدرك أيُّ خبير استراتيجي عسكري أن روسيا الاتحادية قادرة على إصابة أوروبا بعطب شديد إنْ أرادت الزحف في الحال، وبالقدر نفسه ستكون الصين.
من هنا تبدو الشراكة مع الولايات المتحدة وبريطانيا مصيرية لمستقبل أوروبا.
جُل ما يمكن أن تقدمه أوروبا هو قوة قوامها خمسة آلاف عنصر لمواجهة أي عمليات عسكرية فرعية، لا مواجهة حروب ذات طابع أممي.
الناتو حاجة مُلحة لجانبَيْ الأطلسي، والتمرد سوف يُخمَد عما قريب، وبخاصة في ظل التحديات الواقفة خلف الباب تشتهي أن تتسيَّد على أمن وأمان الأوروبيين والأمريكيين على حد سواء، فانظر ماذا ترى!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة