أزمة رفع الدعم عن الوقود في لبنان تكبر بهدوء، ولا حلول جذرية لها، لأن كل الخلافات السياسية حولها أكبر بكثير من التفاهمات.
والخلافات هنا ليست حول ضرورة رفع الدعم أم لا، وإنما متى وكيف يجب رفع هذا الدعم.. ليس حرصا على صالح المواطن طبعاً، وإنما على صالح الزعماء وساسة البلاد.
اعتاد رئيس الجمهورية، ميشال عون، أن يضرب بيده على الطاولة كلما همَّ حاكم مصرف لبنان برفع الدعم عن المحروقات.
كان "عون" يخشى أن يشهد عهده ارتفاع سعر البنزين إلى أرقام قياسية، فيُحرَج الصِّهر وتتراجع فرصُه في الرئاسة، أو يُحرج التيار الوطني الحر وتتراجع حصته في انتخابات مجلس النواب المقبلة.
لا يهم "عون" أن يؤدي رفع الدعم عن الوقود إلى كثير من البؤس لأتباعه، ما دام هؤلاء البؤساء سيصوّتون لحزبه وصهره في الاستحقاق البرلماني المقبل.
ليس هُما فقط -"عون" وصهره- من يتبع هذا المنطق في لبنان، بل جميع قادة الدولة، الذين يريدون البقاء كأسياد حتى لو فني الشعب.
هنا تكمن حقيقة ما يجري في ذلك البلد المتوسطي، إنها ليست أزمة دعم حكومي وإنما أزمة تخلٍّ رئاسي ووزاري وبرلماني عن اللبنانيين.
فأمراء الحرب الأهلية تحولوا إلى ساسة وأصحاب أعمال، والكعكة التي يتقاسمونها، مع مراعاة تباينات نفوذ كل منهم، هي قوت الشعب وحريته وحقوقه.
المُحاصصة في السلطة والمال هي لغة الساسة في لبنان، ولأن البلد الصغير لديه كثير من الزعماء، تستغرق الاتفاقات على كل شيء أشواطا من الزمن.
فقد اعتاد اللبنانيون مثلاً الانتظار لشهور من أجل ولادة حكومة جديدة بعد تكليف رئيسها، الذي يكون هو نفسه غالبا مَن يقود المجلس الوزاري المنتهية صلاحياته.
اعتاد اللبنانيون أيضا الانتظار لأعوام حتى تتكشف حقيقة جريمة أو نكبة أصابتهم، وذلك لأن المُحاصصة تعني أيضا غض الطرف عن غيرك ليغض طرفه عنك، فمهما كان حجم الكارثة لا بد من المماطلة في التحقيق في أسبابها وتنفيذ أحكام القضاء فيها، إنْ وجدت، حرصاً على التفاهمات الكبرى بين الزعماء.
بسبب هذه المحاصصة بقي رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، عاما كاملا لا يجرؤ على رفع الدعم عن الوقود، وقراره بوقفه لا يعني أنه وقوف إلى جانب اللبنانيين وانقلاب على "لعبة الكبار"، وإنما هو إشعار بأن المرحلة تحتاج إلى تفاهمات جديدة في هذا القطاع، ولعل من الأفضل المضي في تشكيل حكومة "الإنقاذ" المنتظرة.
"سلامة" جزء من المشكلة والحل معا، وقراره برفع الدعم عن الوقود ينطوي على بُعدين لا بد من أخذهما بعين الاعتبار، الأول هو أن "سلامة" لا يريد أن يكون كبش فداء عندما تؤول الأمور إلى الهاوية، والثاني أنه يريد الدفع بشكل غير مباشر نحو تشكيل الحكومة لغاية ما في نفسه.
وقد التقط رئيس الجمهورية إشارة حاكم المصرف وسارع إلى الإعلان عن اقتراب ولادة الحكومة المنتظرة.
يقول "عون" إن المسار "سالك" نحو تلك الحكومة، التي يحاول نجيب ميقاتي تشكيلها، ولكن "عون" لم يقل ما الذي تغير حتى تحركت عجلة التشكيل وخرجت من الأوحال التي علقت بها لشهور طويلة.
حكومة "ميقاتي" -إنْ تشكّلت طبعاً- لن تقدم مخرجا لأزمات لبنان الكثيرة، لأنها لن تكون "فدائية" كما يريد البطريرك الراعي.. ستركز فقط على سباق الانتخابات البرلمانية المقبلة أكثر من أي شيء آخر، وكل ما ستخرج به من قرارات هو لصالح هذا الفريق أو ذاك في السباق المقرر خلال الربيع المقبل.
ولأن الانتخابات باتت أولوية والوقت يدنو بسرعة من الجميع، يفضّل فريق "عون" وصهره و"حزب الله" الوصول إلى الاستحقاق النيابي عبر حكومة تصريف الأعمال، وإن كان لا بد من حكومة جديدة فلا مفر من احتكار وزراء الحقائب الفاعلة في السباق الانتخابي، وعلى رأسها وزارتا العدل والداخلية.
التقدم البطيء في تشكيل الحكومة اللبنانية، والذي تحدث عنه "ميقاتي" بعد لقائه "عون" مؤخرا، يعني أن العراقيل، التي يضعها رئيس الجمهورية وصهره، قد تقلصت، مقارنة بما واجه رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، ولكن ليس إلى حدود التفاؤل بتنازل "فرسان العهد الجديد" عن الحقائب المؤثرة على مسار الانتخابات، وبالتالي لن تولد حكومة متحررة من التبعية السياسية، أو تتمتع بالحيادية إزاء الاستحقاق البرلماني.
الإفراج عن الحكومة الجديدة دون شروط خطوة لا يتوقعها أحد من "عون" أو صهره أو "حزب الله" الإرهابي، ولكن استمرار التعثر في تشكيل الحكومة يعني مزيدا من الأبواب الموصَدة أمام الدعم الدولي للبنانيين، ومع أزمة مثل رفع الدعم الحكومي عن المحروقات يصبح تعطيل تشكيل الحكومة دون بدائل حقيقية أشبه بالتصرفات الطائشة.
ولأن "حزب الله" يعرف ذلك جيداً يمضي نحو استدعاء الدعم الإيراني لأتباعه.. يريد أن يجلب من إيران الوقود والدواء ليرشو سكان مناطقه ويضمن أصواتهم دون مشقة في الانتخابات المقبلة، إضافة إلى أن هذا الدعم يزيد من ارتهان لبنان لإيران، ويغرقه أكثر فأكثر في أزمات نظام طهران بالمنطقة.
ما لن يفعله الدعم الإيراني، أو أي دعم خارجي آخر، هو أن يجعل اللبنانيين أولوية بالنسبة لـ"قادة" بلادهم.. ربما هو يفعل العكس تماما، ويجعل "الزعماء" يمعنون في التخلي عن الشعب واستغلاله، فالدعم الخارجي بحد ذاته مصدر للفساد، فمن لا يكترث لقتلى وجرحى ومشردي كارثة مرفأ بيروت، لن يتردد في سرقة هذا الدعم، ولن يهتم بمن توقفت سيارته لنقص الوقود، أو نام جائعا بسبب ارتفاع أسعار الغذاء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة