سقوط المدن الأفغانية بشكل متسارع في يد حركة "طالبان" يطرح أسئلة مهمة.
أول هذه الأسئلة هو: هل فشلت الولايات المتحدة الأمريكية في بناء حكومة قادرة على مواجهة خطر التنظيمات الدينية؟ أم أن واشنطن سعت للحفاظ على قوة "طالبان" خلال عقدين فائتين؟ وكيف يمكن قراءة المشهد الأفغاني وانعكاساته على المنطقة والإقليم؟
في البدء لا بد أن نحرر المصطلحات والمواقف الخاصة بما حدث ولا يزال يحدث داخل أفغانستان للإجابة عن السؤال الأهم: هل نُعد السقوط الذريع للحكومة الأفغانية أمام "طالبان" فشلًا للولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة الإرهاب؟ أم أن الأمر يتعلق بفشل في بناء قدرات الجيش الأفغاني ليكون قادرًا على مواجهة "طالبان" التي انتظرت خروج القوات الأمريكية لتنقض على الحكم؟
يبدو للمتابع أن أمريكا حافظت على "طالبان" طوال فترة وجودها في أفغانستان منذ بداية الحرب الأمريكية على الإرهاب هناك في عام 2001 حتى خروج القوات الأمريكية عام 2021، وأن الهدف من الاحتفاظ بوجود هذه الحركة هو استخدامها في مواجهة خصومها السياسيين، وتحديدًا الصين، التي فشلت أمريكا في مواجهتها اقتصاديًا، فأرادت مواجهتها بنوع آخر تكون "طالبان" و"القاعدة" حاضرة فيه.
تريد الولايات المتحدة أن تصبح أفغانستان منصة لتصدير الإرهاب والتطرف للعالم، وهو ما سوف ينعكس على الصين بالطبع، فقد يواجه تنظيما "القاعدة" و"داعش" وحركة "طالبان" الصين، وهو الأمر الذي يمكن أن ينهي، أو على الأقل يعطّل، حلم الصين إذا ما تورطت داخل أفغانستان، كما انتهى حلم الاتحاد السوفييتي السابق عندما قرر احتلال أفغانستان عام 1979 فخرج بهزيمة قاسية منسحبا انسحابا تاما عام 1989، وبعدها تفكك بتدخل أمريكي.
ما نود قوله إن أمريكا دخلت أفغانستان قبل عشرين عامًا بزعم مواجهة تنظيم "القاعدة" الإرهابي، ولم تصل إلى رأس التنظيم، أسامة بن لادن، إلا بعد 10 سنوات من المواجهة، التي انتهت بتصفية زعيم "القاعدة" في عام 2011، ما يطرح سؤالًا جديدًا: ما أسباب إخفاق واشنطن وتأخرها على مدار عقد كامل في القبض على رأس زعيم القاعدة القديم، بينما لم تتمكن من زعيمه الحالي أيمن الظواهري، الذي لا يزال حيًا ويمارس نشاطه؟
أمريكا ادعت مواجهة "طالبان" بينما سمحت لها بتجنيد قرابة 60 ألفا يقاتلون بين صفوفها اليوم، وهي قوة لا يستهان بها.
كان بإمكان واشنطن بناء حكومة قوية في كابول ولكنها لم تفعل، فوجودها على مدار عقدين كان رمزيًا، وعندما قررت الخروج من أفغانستان خرج تقرير للاستخبارات الأمريكية يعلن توقع سقوط حكومة كابول في غضون ثلاثة أشهر من الانسحاب الأمريكي وصعود "طالبان" للحكم.
تأتي هذه القراءة الأمنية بشكل لا يخالف وجهة نظر السياسيين ساكني "البيت الأبيض"، لذلك سعت الإدارة الأمريكية إلى ترتيب الخروج السريع حتى تتسلم "طالبان" الحكم، فواشنطن تتعامل مع الصين كتعاملها مع الاتحاد السوفييتي قديمًا وتريد أن تزل قدما الصين في الفخ الأفغاني، أو إن شئت فقل فخ "طالبان" و"القاعدة"، وهو بالتأكيد ما تعيه الصين جيدا.
يبدو المجتمع الدولي غائبًا عن مواجهة حركة "طالبان" وتقدمها اللافت في أفغانستان ومؤشرات صعودها للسلطة، كما غاب عن المجتمع الدولي مواجهة التصور الأمريكي بإطلاق يد "طالبان" في أفغانستان، مع اعتبار أن تصريحات الرئيس الأفغاني، أشرف غني، وتصريحات سابقه حامد كرزاي، أشارت إلى أن انسحاب أمريكا بهذه الطريقة لا يعني إلا صعود "طالبان" للسلطة.
أخطأت أمريكا مرتين، مرة بدعمها المقاتلين الأفغان عام 1979 بهدف تفتيت الاتحاد السوفييتي، فقد كانت هذه الحرب أحد أسباب تفكك ذلك الاتحاد، لكنها كانت سببًا أيضا في نشأة تنظيم "القاعدة" الإرهابي، الذي قام بضرب بُرجي التجارة في أمريكا عام 2001، والأخرى كانت بدعمها "القاعدة" و"طالبان" بالانسحاب المفاجئ من أفغانستان في عام 2021.
هذا التنظيم الإرهابي، الذي وجد رعاية وحماية أمريكية في مواجهة الاتحاد السوفييتي، هو نفسه من قرر بعد انتهاء معركته مواجهة أمريكا ذاتها، وهو ما يرجح وقوع "11 سبتمبر" أخرى لو استمر دعم حركة "طالبان" بهذه الصورة، فدعم "طالبان" يعني دعم "القاعدة"، ما يشكل خطرًا على المنطقة والإقليم، بل والعالم كله، وليس الولايات المتحدة فقط.
دول كثيرة أرادت أن تتعامل مع الإرث الأمريكي في أفغانستان، فهناك من أقام علاقات مع "طالبان" وغض الطرف عن تعاونها مع تنظيم "القاعدة"، وهناك دول استغلت السلوك الأمريكي وحاولت بناء علاقات مع "طالبان" و"القاعدة" من منطلق أيديولوجي، بحيث تصبح أفغانستان مأوى لتنظيمات الإسلام السياسي، والسلوك الدولي عموما يعكس مدى الأزمة في التعاطي مع الخطر المتصاعد من أفغانستان وتأثيرها على أمن العالم.
خطر الإرهاب المتصاعد والمتنامي والمحتمل من أفغانستان يبدو كأنه يتم بدعم ورعاية دول كبرى، أو على الأقل عبر غض طرف هذه الدول عن نشاط تنظيمات العنف والإرهاب، ما يتطلب تكاتفا عربيا دوليا لمواجهة خطر "طالبان" و"القاعدة" معًا، وما قد يحققانه من إحياء لإرهاب الإخوان داخل جبال "تورا بورا".
لا بد من استراتيجية مواجهة لجماعات العنف والتطرف، وأيضا مواجهة الدول الداعمة لهذه التنظيمات، رغم ما ينطوي عليه الأمر من تعقيد وصعوبة، لكنها السياسة التي وضعت بعض الدول في اختبار مواجهة الإرهاب، والمصلحة العليا، التي جعلت غيرها يقف أمام هذه التنظيمات وأمام داعميها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة