هل أضحت أفغانستان مشكلة تهدِّد أمن واستقرار العالم، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي الغامض؟
علامة الاستفهام المُتقدِّمة باتت مطروحة على كثير من موائد النقاش العالمية، وبخاصة في ظل التطورات الأخيرة على الأرض هناك، المُتمثلة في سيطرة "طالبان" المتنامية على العديد من الولايات الواقعة رسميًّا تحت إشراف حكومة كابول، حليفة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد عقدَيْن من الزمن، تمضي أمريكا مُخلِّفةً وراءها إشكالية مثيرة للقلق الآسيوي خاصة، والعالمي بشكل عام، ولا يملك أحد حتى الساعة جوابًا شافيًا وافيًا عن سبب هذا الانسحاب بهذه الطريقة التي كادت تشبه الانسحاب من فيتنام قبل خمسة عقود.
تكثر التساؤلات حول مستقبل تعاطي حلف "الناتو" مع أفغانستان بعد الانسحاب، ويبدو أن الجماعة الغربية ليس لديها أي بديل سوى القوة، التي تمثلت في استخدام قاذفات الطائرات الأمريكية الشهيرة "بي -52" مرة جديدة لقصف مواقع "طالبان".
أخفقت الولايات المتحدة عبر عشرين سنة في إقامة نظام أفغاني محلي قوي له جذور أو شرعية، وربما فاتها -رغم المعروف عنها من مهارة غير مسبوقة في جمع المعلومات- أنها أمام معادلة غير متوازنة، ذلك أن الحكومة التابعة لها عملت من خلال منظور أيديولوجي، فيما الند والمقابل، المتمثل في "طالبان"، كان ولا يزال ينطلق من رؤى دوجمائية عقائدية، ما يعني أننا أمام تقابل غير منطقي بين ما هو نسبي وما هو مطلق.. ولهذا كان لا بد لحساب الحقل الأفغاني أن ينتهي على هذا النحو.
على أن الأسئلة المُتعلِّقة باستقرار العالم تبدأ من عند الرؤية الأمريكية المفقودة تجاه مستقبل أفغانستان، وتمضي قدمًا نحو تأثر البيئة الآسيوية، لا سيما في الصين وروسيا، بما يحدث في الداخل الأفغاني، ثم الانتكاسة الأممية المُتوقعة تجاه مكافحة الإرهاب، لا سيما أن أفغانستان سوف تصير بيئة جاذبة لا طاردة، وربما حاضنة، للأسوأ الذي لم يأتِ بعد.
دَعُونا في اختصار غير مُخِلّ، نتوقّفْ مع المأزق الأمريكي، الذي تناوله بالتحليل كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة وكندا، التابع لأكاديمية العلوم الروسية، فلاديمير فاسيليف، ففي رأيه أن الولايات المتحدة تواجه الآن مشكلة تقليدية هي: كيف تغادر أفغانستان وتبقى فيها في الوقت نفسه؟
عمليا، تم تحديد الاستراتيجية من قبل البنتاغون، وقد تمثلت في اتفاق ضمني بين "طالبان" وبين الولايات المتحدة، يقوم على فكرة أنه إذا حنثتْ "طالبان" بوعودها في التعبير عن نفسها بشكل شرعي وديمقراطي، فإن واشنطن يحق لها أن تعود.
على أن "طالبان" تدرك جيدًا أن العودة لوجستيا بالمطلق أمر شبه مستحيل، وأن أقصى ما تستطيع واشنطن وبقية الناتو فعله هو إعادة استخدام القبضة الحديدية، وهذه قد جَرّبَتْها "طالبان" وتمَرَّست في مواجهتها طوال سنوات المواجهة المسلحة مع الولايات المتحدة، وعرفت كيف تختبئ في الجبال والمغارات وشقوق الأرض، ولهذا تمضي كالسكين في الزبد، تُسقِط الولاية تلو الأخرى إلى حين السيطرة على العاصمة كابول، تلك التي لن يطول انتظارها.. ثم ماذا؟
التساؤل الأخير يحمل مخاطر الفراغ السياسي، الذي سيحل قريبًا في دولة تمثل مقبرة للإمبراطوريات، من زمن الإمبراطورية الرومانية إلى الأمريكية، وهنا فإن المرشحين لملء الفراغ لا بد أن يأتوا من قلب آسيا، ولا يوجد على الساحة الدولية إلا روسيا والصين.
أما عن روسيا، فغالب الأمر أنها لا تود أن تُستدرَج مرة جديدة في أفغانستان، كما أن توجهات الكرملين لا تتساوق مع سياسات مجلس السوفييت الأعلى قبل أربعة عقود، ولدى موسكو معارك أخرى عليها أن تتفرغ لها، وصراعات بينية مع واشنطن تحتاج إلى عملاق قَدَماه من نُحاس، لا من فخار، كما كان الحال مع الاتحاد السوفييتي سابقًا.
هل هي الصين التي يمكن أن تسعى لشَغْل دور واشنطن؟
بالقطع، تبدو هذه شهوة قلب واشنطن، إذ تتمنّى أن تخطو الصين إلى قلب فخ أفغانستان، لتكون الإمبراطورية الجديدة التي تكتب نهايتها في الداخل الأفغاني، وهو أمرٌ لا يغيب عن أعين الصينيين ويتحسبون له منذ زمان وزمانَيْن.
هناك طرف ثالث على الحدود مع أفغانستان، يمكنه أن يتلاعب بالداخل الأفغاني ويقض مضاجع أي بقايا للنفوذ الأمريكي، ونعني به إيران، تلك التي لها قنوات مفتوحة هناك مع كل الفصائل، وتعرف كيف تتعاطى مع كل جماعة حسب احتياجاتها اللوجستية من جهة، وتبعا لرؤاها العقائدية من جهة ثانية.
الاستقرار العالمي، الذي ستزيد اضطرابات أفغانستان من حظوظه، موصول بالجماعات الراديكالية والأصوليات العنيفة، تلك التي ما تركت الأراضي الأفغانية قط، رغم مواجهات عقديْن أنفقتْ خلالهما واشنطن تريليونات الدولارات وفقدت بضعة آلاف من جنودها.
تبدو مدن أفغانستان اليوم كأنها مسرح يستعد لعرض فصل جديد من رواية تنظيم "القاعدة" وأخواته، فهؤلاء يعتبرون الانسحاب الأمريكي انتصارًا ما بعده انتصار، ولعل الجديد كذلك هو أن تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي بدا منهارا تنظيمِيًّا في السنوات الأخيرة بعد اندحاره في العراق وسوريا، يعاود لملمة شمله.
وبينما التحذيرات الاستخبارية الأممية تقول بعودة الدواعش من جديد، تتحفز أوروبا لملاقاتهم على نحو خاص، فتطفو الفرصة الأفغانية جاهزة على طبق من فضة ليلتقطها الدواعش، الذين اعتبروا أن السماء قد منحتهم قبلة حياة، سواء جرى الأمر بالتنسيق مع تنظيم "القاعدة" الإرهابي أو مع غيره.
يتساءل البعض: هل هناك صفقة ما سرية بين واشنطن وأنقرة تقوم على تخليق كيان سياسي يكفُل لـ"طالبان" وجماعات الإسلام السياسي أن تُحيل نهار روسيا والصين إلى قلق، وليلهما إلى أرق؟
البعض يرى أن الانسحاب تمثيلية أُعد لها مسبقًا، وهدفُها الرئيس إكمال سيناريو لم يكتمل في زمن ما سُمي "الربيع العربي" المغشوش، والذي كان يهدف ضمن أهداف عديدة إلى تصعيد تلك التيارات الإرهابية لتكون حصان طروادة في قلب آسيا الصاعدة.
لن يكون الإرهابُ المرشَّح للصعود من جديد خنجرًا في خاصرة روسيا والصين فقط، بل حتمًا سوف تتأثر بقية بقاع وأصقاع العالم.
وبالقرب، تبدو منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط في مقدمة المستهدفين، كأنه قدر مقدور أن تواجه المنطقة فصلا جديدا من سيناريو الإرهاب المعولم.
حتمًا يبدو ما تقدَّم سيناريوهات مُتوقَّعة أو محتملة، ولا أحد قادر على أن يجزم بمستقبل أيٍّ منها، غير أن الحقيقة المُؤكَّدة دون شكٍّ هي أن العالم سيضطرب من جديد.
الزلزال يضرب أفغانستان والعالم يحصد توابع الاستقرار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة