تكاد لا تهدأ الانتقادات المتبادَلة بين كبار المسؤولين في واشنطن وبكين منذ سنوات عدة.
الأمر الذي يُمثِّل أهم عناصر الاستمرار في السياسة الخارجية بين إدارتي "ترامب" و"بايدن".
ويُصوِّر كثير من الباحثين الغربيين الأمر على أنه صراع بين البلدين حول قيادة النظام الدولي، ومَن تكون الدولة التي تتربع على عرشه.
وفي اعتقادي أن الموضوع أعمق من هذا بكثير، فالصين لا تريد زيادة دورها ونفوذها في النظام العالمي الراهن فحسب، وإنما تسعى إلى تغييره وتبديله.
ومن التبسيط النظر إلى الصين كإحدى الدول، التي تتنافس على قمة العالم، فهي في الحقيقة ذات خصوصية ثقافية وحضارية ينبغي فهمها حتى يُمكن تفسير السلوك الصيني في المجال الدولي.
فالصين دولة شرقية تسودها الثقافة الكونفوشيوسية، ولم يتغلغل فيها الفكر الغربي الحديث وما ارتبط به من أفكار الثورة الفرنسية، وما تلاها من أُطروحات غربية يتم تسويقها على أنها المبادئ والثقافة العالمية، التي يجب أن تهتدي بها كل الأمم والدول.
ونُقطة البدء هي أفكار كونفوشيوس، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وأقام فلسفة شاملة جمع فيها كل التقاليد الصينية عن سلوك الفرد والجماعة، واعتمدت نظريته عن المجتمع والسياسة على أولوية الأسرة وسمو الدولة، وأكد مبدأ الطاعة، وأن الإنسان الفاضل لا يُمكن أن يتمرد على من هُم أعلى منه مكانةً.
جاءت أفكاره لتُقدم التبرير الأخلاقي لطاعة الحكام في الصين القديمة، التي كانت تُسمَّى بـ"مملكة السماء".
أما الصين المعاصرة فهي بنت حضارة قديمة ونظام قِيَمي وأخلاقي مستقر ومتواصل.
وحرصت نُظُم الحُكم، التي ظهرت في الصين خلال القرن العشرين كالنظام الجمهوري الذي أسسه "سن يات سن" عام 1913 أو نظام الحكم الشيوعي الذي أسسه "ماو تسي تونج" عام 1949، على استخدام الثقافة والقيم الكونفوشيوسية.
لذلك، فإن الثقافة السياسية السائدة هناك تحضُّ على أولوية المجتمع من الفرد، وأن الإنسان يحقق ذاته من خلال انخراطه في الجماعة، التي ينتمي إليها، وفي طاعة الدولة التي تُعبِّر عن الصالح العام.
وتفسر لنا هذه القيم قدرة السُلطات الصينية على الحشد والتوجيه.
واستناداً إلى ذلك، فإن النخبة السياسية الصينية تمضي في مضمار التقدم والنهضة، مستلهِمة في ذلك ماضي الصين العريق، إذ يعود اسمها في اللغة الصينية إلى رمزين، هما "تشونج قوه" و"تشونج وجوط"، اللذان يشيران إلى معنى المركزية والدولة، وهو ما قدَّم التفسير الفلسفي لتوحيد الولايات وإنشاء الإمبراطورية الصينية القديمة، والتي سُميت بـ"المملكة الوسطى"، أي إنها وسط العالم وقلبه.
يدعم من هذا التوجه أن الصين لم تُشارك في تأسيس النظام الدولي المُعاصر، فهي لم تكن طرفاً في الحروب والتوازنات السياسية، التي شهدتها أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل كانت في واقع الأمر ضحيةً لهذا النظام وفريسةً له.
ففي القرن التاسع عشر، سعت بريطانيا إلى فرض سيطرتها على الصين ونشبت الحرب البريطانية-الصينية "1839-1842"، والتي سُمِّيت بـ"حرب الأفيون الأولى"، لأن هدفها تَمثَّل في إلغاء القيود التي وضعتها السُلطات الصينية على تجارة الأفيون وتسببت في خسائر كبيرة للتجار البريطانيين.
وانتهت الحرب بفرض عقوبات مالية على الصين وإجبارها على إطلاق حرية تجارة الأفيون وضمان مزايا للتجار البريطانيين.
وتلا ذلك نشوب حرب الأفيون الثانية "1856-1860"، التي شاركت فيها بريطانيا وفرنسا لنفس دوافع الحرب الأولى، وانتهت بنتائج مماثلة وتنازُل الصين عن شبه جزيرة كولون وجزيرة ستونكترز لبريطانيا.
ومدّت الدول الأوروبية نفوذها في الصين، فسيطرت بريطانيا على هونج كونج، وفرنسا على الهند الصينية، وروسيا على سيبيريا الشرقية وتركستان الصينية.
كما أن الصين لم تكن طرفاً في إقامة مؤسسات النظام الدولي الراهن، والتي تبلورت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومقررات مؤتمر "سان فرانسيسكو" عام 1944، الذي أنشأ الأمم المتحدة، واتفاقيات بريتون وودز في العام نفسه، والتي وضعت الأساس للمؤسسات المالية العالمية.
في هذا الوقت لم يكن الحزب الشيوعي قد وصل إلى الحُكم، وكان ممثل الصين هو "شيانج كاي شيك" وحزب الكومنتانج، الذي اندحر أمام تقدُّم جيش التحرير الشعبي الصيني الذي قاده الشيوعيون.
لذلك، فإن الصينيين يشعرون بالندية تجاه الأفكار الغربية، وأنهم لا يقفون موقف التلميذ الذي يتلقى العلم والحكمة من أوروبا، ويجاهرون برفضهم الأفكار الغربية السائدة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويجادلون بأن لديهم تصوُّراً لنموذج آخر للفرد والمجتمع والدولة.
واتصالاً بذلك، فإنهم يطرحون مفهوماً مُغايراً للعلاقات بين الدول، وفهماً مختلفاً للعولمة، قوامه مشروع الحزام والطريق وتبادُل المصالح الاقتصادية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة