في 25 يوليو الماضي، واعتمادا على المادة 80 من الدستور، قرر الرئيس قيس سعيد إعادة الهيبة إلى دولة تونس استجابة لمطلب شعبي.
عملية الإنقاذ الوطني هذه، وإن حازت دعما شعبيا تاريخيا، جاءت لتُسقط كل حجج المناهضين لها، إلا من بعض الأصوات المأجورة المعادية لمصلحة شعب تونس وكل شعوب المنطقة.
وكما كان متوقعاً، خالف التفاعل الإيجابي بهذا الحدث التاريخي للإنقاذ الوطني تلك الأصوات المأجورة، التي تغنت بربيع مشؤوم لم يخلف وراءه إلا الدمار والخراب.
لقد تعالى تنديد وصراخ هذه الأطوات لتحرض الغرب السياسي والحقوقي والصحفي ضد القرارات السيادية التونسية، ولهؤلاء أقول: إن الذي سقط في تونس ليست الديمقراطية، ولا الحريات السياسية، ولا حرية الصحافة، ولا حتى الدستور، لكن ما سقط في تونس واقعيا مؤخراً هو حزب "النهضة" الإخواني، ولكي أكون موضوعيا، أعترف بأن قرارات الرئيس التونسي ألغت بعض الحقوق والاستحقاقات والامتيازات، فقد ألغى قيس سعيد الحق في العمالة والنهب والفساد الإخواني!
لا ريب أن هذه الجماعة كانت قد انتصبت على سدة السلطة ديمقراطيا على أثر ذلك الغليان، الذي يدعى "الربيع العربي"، ولكن ذات الشعب الذي صوّت في مصر للإخوان هو الذي نزل إلى الشوارع بالملايين للتظاهر ضدهم.. أكثر من 23 مليون مصري وقتها دعوا لإنقاذ البلاد من براثن الإخوان.
وفي تونس، تظاهر الآلاف في مختلف المحافظات يوم 25 يوليو الماضي، مطالبين الرئيس قيس سعيد بما كانوا يرددونه منذ أشهر بإلحاح لكي يحل البرلمان ويحظر حركة "النهضة" الإخوانية، وهذا يعني أن الرئيس التونسي المنتخب شرعيا من قبل قرابة الثلاثة ملايين تونسي، ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي، قد تصرفا بشكل قانوني محض طبقا للأحكام الدستورية، والأهم أنهما تصرفا طبقا للشرعية حين لبّيا مطالب الجماهير ونداء المتظاهرين في كلا البلدين.
لقد شعر الإخوان بالقوة والغطرسة حين دعمهم الغرب، خاصة الولايات المتحدة، فتمادوا في عنجهيتهم بعد أن وصلوا إلى السلطة، وحاولوا الاستيلاء على كل هياكل الدولة وتوغلوا في مفاصلها، فأفرغوا صناديقها المالية، وخربوا الاقتصاد الوطني، وأبرموا تعاقدات مشبوهة، وأفسدوا وسائل الإعلام والعدالة، ورشَوا نواب برلمان.
كل من يزعم شبها بين الحالة المصرية السابقة والسيناريو التونسي الحالي يكون إما سيئ النية أو يمارس التضليل أو يدعم الترويج للإخوان، إذ لا يوجد أي وجه للمقارنة بين الحالتين المصرية والتونسية غير الذي ذكرناه من رغبة شعبية في الخلاص من حكم الإخوان الإقصائي، فعلى عكس السيناريو المصري فإن الدستور التونسي لم يُلغَ ولم يتم إبطاله، والبرلمان لم يتم حله، رغم تشوهه بأعضاء لا يمثلون الشعب، من أمثال ذلك النائب الذي اعتدى تحت قبة البرلمان على زميلته رئيسة كتلة حزب الدستوري الحر، عبير موسي، بصفعها خلال الجلسة العامة.
لقد تلوث الواقع السياسي والمؤسساتي التونسي بالعديد من الخطايا، لعل أساسها خطيئة عياض بن عاشور، الذي رأس ما يسمى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، ثم نواقص الدستور.
لقد ظل النظام الانتخابي الذي وضعه "بن عاشور" إلى اليوم قائما، وهو الذي قام عليه المجلس التأسيسي، وهو نظام انتخابي على القوائم وأفضل البقايا.
وأقدم لكم مثالين هنا للتدليل على هذه الخطايا، الأول هو محمد المنصف المرزوقي، الذي بتزكية من راشد الغنوشي سطا على كرسي رئاسة الدولة التونسية بعد حصوله على 7000 صوت بأفضل البقايا في قائمة مترشحة عن دائرة نابل.
والمثال الثاني في البرلمان الحالي هو كتلة التيار الديمقراطي، التي مر 17 نائبا من أصل 21 منها بنظام "أفضل البقايا".
لقد أضر هذا النظام الانتخابي بتونس، لذا أصبح إسقاط هذا الدستور من أولى الواجبات.
فمن أهم نواقص الدستور التونسي الحالي تقسيم السلطة إلى ثلاثة أقطاب متخاصمة، فالسلطة التشريعية في يد حزب الأغلبية، التي يخولها النظام الانتخابي وليس الواقع السياسي، أو أحزاب الأغلبية في البرلمان، وقد كانت في يد حزبي النهضة الإخواني وقلب تونس، الذي أسسه رجل الأعمال نبيل القروي، الذي اتهم في قضايا فساد.
لقد ارتهنت هذه السلطة التشريعية لمصلحة تنظيم الإخوان، وعبثت بمصير الشعب التونسي وبمقدراته ومدخراته إلى حد تبييض الإرهاب وتمجيده في سرديات مدحية خلال نقاشات البرلمان، الذي وصل به الأمر إلى استضافة إرهابيين في رحابه علنيا بالتعنيف المتكرر لرئيسة كتلة معارضة بمباركة من رئيسه، راشد الغنوشي.
هذا المشهد البرلماني المهيمن على الحياة السياسية والمؤسساتية قابلته سلطتان تنفيذيتان مستقلتان عن بعضهما: رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، حيث إن رئيس الجمهورية يمتلك سلطات سيادية حقيقية ذات شرعية نصية ومشروعية انتخابية شعبية، ولكنها محدودة، وفق إرادة إقصائية مقصودة في ذهن محرر الدستور، "بن عاشور".
أما رئيس الوزراء فيمتلك سلطات توازي سلطات رئيس الجمهورية، إن لم تكن أكبر، بحسب المواد من 89 إلى 101، وهي مقصودة كذلك ليكون رئيس الحكومة دُمية طيعة في يد الإخوان الذين ضمنوا بموجب نمط القانون الانتخابي وطبيعة تنظيمهم الانفصالية حيزا برلمانيا يجعل خيار الحكومة ورئيسها أداة لتحقيق أهدافهم.
أما فيما يخص السلطة القضائية، فقد سطا عليها الإخوان منذ الأيام الأولى لما سمي بـ"الثورة"، وذلك بعزل قضاة مختصين في مكافحة الإرهاب، حتى يمرروا قانون العفو التشريعي العام، الذي أطلقوا به سراح آلاف الإرهابيين، ثم في 2012 أتم نور الدين البحيري، القيادي في "النهضة"، المهمة بعزل عشرات القضاة، لفرض سيطرة الإخوان على السلطة القضائية لسنوات.
وفي 12 يوليو 2021، وجد المجلس الأعلى للقضاء أنه مجبر على إحالة البشير العكرمي، قاضي الإخوان، إلى التحقيق، لتسقط به ورقة التوت ويبدأ السقوط السريع نحو الهاوية: التنظيم السري، الأمن الموازي، التخابر مع أطراف ودول أجنبية، الاغتيالات، التسفير وتصدير الإرهاب والابتزاز، وغيرها من الملفات التي كانت مركونة على الرفوف.
القائمة تطول حول توظيف الإخوان للقضاء للبقاء في السلطة وإطالة تمرسهم وراء مضمون خاوٍ ومزيف تحت لافتة استقلال القضاة.
ما جناه دستور "بن عاشور" لسنة 2014 هو السقوط وراء السقوط حتى تتفكك الدولة.
نعلم منذ عهد "مونتسكيو"، بل وقبله منذ الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، أن أفضل طريقة "لعدم الإفراط في استغلال السلطة هو وجود سلطة مضادة توازنها أو تقف في وجهها".. وإذا كنا قد فهمنا جيدا كتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، فإن مبلور هذا المبدأ كان يقصد صراحة السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.
نعلم أيضا أن نظرية الفصل بين السلطات تأسست عليها الديمقراطية الغربية، وتهدف إلى التمييز بين مختلف هياكل الدولة العليا وتأمين استقلاليتها الذاتية بغية تحجيم الإفراط والتعسف في ممارسة السلطة، ولكن استقلالية هذه السلطات الثلاث لا تنفي تكاملها وتناغمها.
المشكلة في حالة الدستور التونسي أن الاستقلالية كانت نظرية، وأن الخصومة بين السلطات الثلاث هي الحاصلة فعلا.
فالمادة 101 تتحدث عن هذه الخصومة الخلافية صراحة، إذ تقول: "النزاعات الناشبة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء على الصلاحيات ترفع الاختلافات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى المحكمة الدستورية، التي تبت في النزاع في فترة أسبوع بناء على طلب يُرفع إليها من أحرص الطرفين".
والمدهش أنه منذ إعلان هذا الدستور التوافقي، فإن المحكمة الدستورية لم ترَ النور، وكان محكوما عليها منذ ميلاد الدستور أن تكون أداة في خدمة الإخوان، والدليل على ذلك مرشحو الإخوان طيلة هذه السنوات.
وقد تمادى الأصوليون المتمركزون في قمة السلطة، بحيث يكون رئيس المحكمة الدستورية، وأغلبية أعضائها "12"، من جماعة "النهضة" الإخوانية وجزء سلفي وآخر من الدُّمى التي تحركها، ولهذا السبب تعذر تشكيلها، ولن تتشكل بهذا الدستور وفي هذا البرلمان.
حال هذا التفتيت للسلطة التونسية دون ممارسة عملها بشكل فعال، وهو الذي جعلها عاجزة عن تحسين الوضع الاقتصادي، وتوظيف الشباب العاطل عن العمل، ومساعدة الفقراء ومواجهة فيروس كورونا، وهنا يكمن السبب الأساسي للأزمة الحالية في تونس، وهي أزمة ابتدأت بصراع مباشر ومفتوح بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الوزراء هشام المشيشي، المعزول طبقا لمقتضيات المادة 80 من الدستور.. فهذا الأخير أصبح نصف رئيس وراح الإخوان يوسوسون في صدره حتى رفض سلطة الدولة الواحدة التي يجسدها فقط رئيس الجمهورية.
لكننا اليوم في حضرة رئيس قالها عالية: "الوطن أو الشهادة"، إنه قيس سعيد ذو المليونين وسبعمائة ألف صوت من التونسيين، الذين عبّر 87% منهم منذ أيام بأنهم راضون عن الإجراءات التي اتخذها بموجب الدستور ضد اللصوص الذين يتخفون وراء النصوص.
وبين ما اصطُلح على اعتباره زُورا وتحايلا دستورا بين الرئاسات الثلاث، ضاعت تونس، إذ شلّت كل واحدة من هذه الرئاسات الأخرى، وانتقلت تونس من دولة دون حقوق سياسية قبل ثورة الياسمين إلى حقوق سياسية دون دولة بعد ربيع الخراب.
كانت فرنسا قد عرفت هذه الحالة التراجيدية-الكوميدية سابقا أيام الجمهورية الرابعة، لكن الجنرال "ديجول" وضع حدًّا وقتها لهذه المهزلة الدستورية والسياسية، وذلك عن طريق اعتماد دستور جديد عام 1958، وقد اعتبر آنذاك أفضل ما يمكن من الدساتير بغية إعادة الهيبة للجمهورية والدولة الفرنسية، هيبة كانت تحللت بفعل الزمن والأحزاب المتصارعة ورجال السياسة المتنافسين على الغنائم أكثر من تنافسهم على خدمة الدولة والمصلحة العامة.
انهارت لذلك الجمهورية الرابعة وقامت على أنقاضها الجمهورية الخامسة بمؤسسات قوية خالدة حتى اليوم، ومع ذلك فإن "ديجول" نفسه هو الذي عدل عام 1962 بعض مواد دستور 1958، بل وكان يفكر في تعديله مرة أخرى عام 1969 على أثر أحداث مايو 1968، وهذا يعني أن الدستور ليس نصا مقدسا لا يمكن المساس به.
لقد شهدت تونس، على غرار فرنسا، منقذها أيام زمان.. الحبيب بورقيبة، الذي أعطى الأمة التونسية دستورا جديدا عام 1959، مشابها للدستور الذي منحه "ديجول" لفرنسا، لكن مأساة تونس الحالية هي أنها شهدت بعد المرحلة الثورية منذ عام 2011، وبنوع من الهستيريا الجماعية، وجود "نخب" سياسية فقرها الفكري مدقع، دون أي كفاءة حقيقية لقيادة البلاد وبلورة نموذج جديد من الحوكمة، وخدعت وانخدعت بقول إنها أعطت لبلاد الياسمين "أفضل دستور في العالم"!
نعم هذا ما عبر عنه "بورقيبة" بشكل رائع في خطابه يوم 15 أكتوبر من عام 1970 عندما قال: "أي دستور، ليس كاملا أبدا ولا قيمة له إلا بقيمة الرجال الذين يطبقونه".
علاوة على ذلك، فإن التونسيين، الذين قاموا بثورة الياسمين في يناير عام 2011، ما كانوا يبحثون إطلاقا عن دستور جديد.. كانوا يريدون "خبز، حرية، كرامة وطنية"، أي أن تعيد لهم الدولة كرامتهم الشخصية عن طريق إعطائهم فرص عمل وإنقاذهم من البطالة والفقر.
الأسوأ من كل ذلك هو أن دستور 2014، الذي يفتخر به "بن عاشور"، ليس في الحقيقة منتجا وطنيا خالصا.. فهو مستورد من الولايات المتحدة الأمريكية، والسبب لذلك معلوم، فالواقع أن الملهم الحقيقي لهذا الدستور هو "نواه فيلدمان"، الأستاذ الجامعي الأمريكي، وهو عضو في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.
هذا المجلس هو أحد المختبرات الفكرية الأكثر نفوذا في مجال التخطيط للشؤون الاستراتيجية والسياسة الخارجية الأمريكية، وكان من بين أعضائه في الماضي مادلين أولبرايت وكولن باول.
وما أن سقطت تونس في حضن الأصولية، حتى سارعت واشنطن بإرسال "فيلدمان" إلى تونس ليقترح على راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي تقديم "أفضل دستور في العالم" لهما كهدية.
تماما كما حصل في الحالة العراقية والأفغانية، فرغم اختلاف الدساتير العراقية "أكتوبر 2005"، والأفغانية "يناير 2004"، والتونسية "يناير 2014"، فإنها تحمل بصمات "فيلدمان".
أخطر هذه الخصوصيات في دستور تونس تبعثُر السلطة إلى ثلاث سلطات مصغرة مستقلة ومتصارعة، وإن لم يتأثر الدستور اللبناني بتدخل أمريكي، "وإنما فرنسي"، فإنه يعاني المشكلة ذاتها.
كان "فيلدمان" نشر عام 2008 أول كتاب له عن طريق منشورات جامعة برنستون بعنوان "سقوط الدولة الإسلامية وصعودها"، وفي هذا الكتاب يلعب دورا مزدوجا، فهو من جهة يقوم بدور المنظّر للدولة الإسلامية، ومن جهة ثانية يلعب دور المحامي عن الأصوليين الأكثر راديكالية.
وتعليقا على هذا الكتاب يرى المفكر التونسي الراحل عبد الوهاب المؤدب أن "عودة دولة القانون إلى هذه البُلدان لن تحصل إلا بعد قيام الدولة الإسلامية وتطورها طبقا لنسخة جديدة لا تعيد من جديد هيئة علماء الدين الذين ما عدنا بحاجة إليهم، وفي مثل هذا السياق، فإن تعلق بعضهم بالشريعة أو مطالبتهم بها لا ينبغي أن يخيفنا بعد اليوم، فالأمر لا يتعلق بالعودة إلى حرفيتها وإنما إلى جوهرها، على هذا النحو تنتهي دولة انعدام القانون والمؤسسات وتنبثق دولة القانون التي سوف تعرف كيف تنفتح على الممارسات الديمقراطية والتمثيلية الغالية علينا".
وقد علق "المؤدب"، وهو من مفكري تونس المهتمين بدراسة فكر "فيلدمان"، قائلا: "هذه فكرة عجيبة اخترعها فيلدمان، الذي يعتقد أن الإخوان هم المؤهلون للقيام بهذه العملية الهادفة إلى جعل الدولة الإسلامية دولة حق وقانون.. وهم في رأيه الذين سوف يُحدّثون هذه الدولة ويجددونها.. وينبغي على الغربيين بالتالي أن يتخلصوا من هذه الفزاعة التي تثيرها لديهم كلمة الشريعة.. فالإخوان لا يطالبون بها إلا لكي يلائموا دولة القانون مع الإمكانيات المحلية، مع التراث الخاص بالبيئة العربية أو الإسلامية، وبالتالي يرى فيلدمان أن الإخوان هم الذين سيكونون حلفاءنا في المستقبل، وليس الديكتاتوريين العلمانيين".
وينبغي التذكير بأنه عندما غزت القوات الأمريكية العراق عام 2003 كان "فيلدمان" قد عُين مستشارا دستوريا لدى هيئة الاحتلال، التي طلبت من "فيلدمان" أن يدبّج لهم "القانون الإداري للمرحلة الانتقالية"، ما يذكّرنا بالهيئة التي ترأسها "بن عاشور" في تونس لصياغة دستور البلاد، وهو الذي شكّل بداية تحرير الدستور.
وكان المفكر إدوارد سعيد قد انتقد "فيلدمان"، وقال عنه حرفيا: "كان خبيرا لامعا جدا في القانون الإسلامي، ولكنه لم يمارس القانون أبدا في العالم العربي، ولم يزُر العراق أبدا سابقا، وبالتالي لا يعرفه إطلاقا، ولا يبدو أنه كان يمتلك الخبرة العملية الحقيقية بمشكلات ما بعد الحرب في العراق".
لم يكن إدوارد سعيد يجهل أبدا أن المهندس الأكبر للدستور العراقي كان تلميذا وتابعا للبروفيسور جون لويس ايسبوسيتو، أستاذ العلاقات الدولية والدراسات الإسلامية في جامعة جورج تاون بواشنطن.
ولقد التقيت شخصيا هذا الرجل عام 1992 في لندن بمؤتمر تم عقده في جامعة لندن للاقتصاد والسياسة، وكان عنوان المؤتمر "الإسلام والديمقراطية"، بعدئذ علمنا أن هذا المؤتمر كان منظما وممولا من قبل جماعة الإخوان، وكان هذا البروفيسور الأمريكي صديقا حميما لراشد الغنوشي وأحد المدافعين المتحمسين جدا عن التيار الأصولي.
لا ريب في أن جان ايسبوسيتو عالم كبير، لكنه في ذات الوقت مناور كبير ورجل ظل، ولكن إذا كنا لا نستطيع لومه على عمله هذا من أجل خدمة مصالح بلاده، كما يفعل تلميذه فيلدمان، فيجب علينا أن نلوم بعض مواطنينا التونسيين من مثقفين وسياسيين ثوريين لأنهم لم يعملوا لخدمة المصالح التونسية.
مهما كان رأينا في هذا الدستور، فإن الرئيس قيس سعيد مدعو لمحوه باعتباره إهانة تاريخية كبرى لتونس وشعبها، فحتى لو افترضنا أن هذا الدستور ممتاز نظريا وقانونيا، فإنه ينبغي تعديله أو إلغاؤه كليا، لأنه دستور مطبوع بوصمة التدخل الخارجي، ولأنه يحمل في نصه وروحه بذور استحالة حكم البلاد بشكل طبيعي وفعال ومثمر، بل يحمل بوادر الزعزعة وعدم الاستقرار بشكل مزمن لتونس بالأساس ولجوارها أيضا لمواصلة مشروع الخراب.
يدير الرئيس قيس سعيد الأزمة الحالية بحكمة واعتدال عن طريق معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحيوية والمُلحة بشكل عاجل، لكن الأكيد بعد أن تجاوز هذه المهام العاجلة، عليه أن يكرس جهوده لخوض المعارك الكبرى في عمقها، والأساسية منها استرجاع السيادة التونسية.. فمن هنا نبدأ.. بطرح الاستفتاء الشعبي كوسيلة للتصويت على دستور جديد يكون وطنيا بشكل كامل، لا مستوردا من الخارج، أو على الأقل إصلاح دستور 2014 عن طريق تخليصه من خطيئته الأصلية، أي من المواد المزعزعة التي تعرقل حكم تونس بشكل صحيح وفعال.
يستطيع الرئيس التونسي أن ينجز ذلك بالاعتماد على المادة 143 من الباب الثامن من الدستور الحالي، وينبغي عليه أن يتأمل هذا الدرس، الذي يتوقف عليه مصير تونس، وإذا ما انزعج حراس المعبد الديمقراطي وحقوق الإنسان في الغرب، فيكفي الرد عليهم بأنْ رجاءً وفّروا نحيبكم على الديمقراطية!.. اهتموا بشؤونكم الشخصية! وإن كنتم متعلقين إلى هذا الحد بالأصوليين فلماذا لا تعتمدونهم عندكم؟ إن الأصوليين الذين تحبونهم وفرضتموهم على الشعوب لم تعد لهم مكانة في تونس ولا في مصر ولا حتى في ليبيا، لأن الشعوب لفظتهم!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة