مع إطلاقه عملية "درع الفرات" في 24 أغسطس/آب 2016 في ذكرى معركة "مرج دابق"، أعاد الرئيس التركي انتقاد معاهدة لوزان.
واعتبر الرئيس التركي المعاهدة، التي رسّمت حدود تركيا الحالية، هزيمةً لتركيا، قائلاً: "سنتدخل في كل من سوريا والعراق، ولدينا وثائق تؤكد أحقيتنا في بسط سيطرتنا على أراضٍ في محافظة إدلب، ووثائق عثمانية مشابهة حول بعض المدن السورية".
وقد سيطرت تركيا على المنطقة الفاصلة ما بين "رأس العين" و"تل أبيض"، لتحقيق أطماعها فيما يُسمى بـ"الميثاق الملي"، واستغلت وجودها في سوريا لتغيير الواقع على الأرض والعودة إلى ما قبل معاهدتي "لوزان" و"سيفر"، كل ذلك في انتهاك واضح للقوانين والأعراف الدولية.
ونذكّر هنا بأنه في 18 يناير 1920 انعقد البرلمان العثماني وأعلن عما يسمى "الاتفاق الملي"، الذي زعم أن كردستان العراق والموصل وشمال سوريا "أراض تركية" من خلال ما يسمى "تأكيد حق إثني تركماني في هذه الأراضي"، رغم أن نسبة التركمان تكاد تكون منعدمة!
الشيء المهم هنا أن حكومة بقايا السلطنة العثمانية في إسطنبول في ذلك الحين وحكومة أنقرة برئاسة "أتاتورك" كانتا متفقتين على هذه الحدود، ولا بد أن نذكّر بما قاله مؤسس جمهورية تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، في خطاب له عام 1920 حرفياً -ما يؤكد أن الأتراك علمانيين وإسلاميين لديهم أطماعٌ في سوريا- يقول "أتاتورك": "حدود الأمة التركية تمتد من جنوب خليج الإسكندرون من أنطاكيا، وجنوب جسر جرابلس، ومحطة سكة الحديد إلى جنوب حلب، ثم تسير جنوباً مع نهر الفرات حتى تضم دير الزور، ثم تتجه شرقاً لتضم الموصل وكركوك والسليمانية"!
تصريحات "أتاتورك" هذه أكدت أن تركيا لم تقتنع يوماً بمعاهدة "لوزان"، وأنها تعتبر خط "الميثاق الملي"، الذي أُقر عام 1920، هو الحدود الفاصلة مع سوريا والعراق، وأن الموافقة على "لوزان" لم تكن إلا تكتيكاً، وأن خروج المحتل العثماني من سوريا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى لم يكن إلا مرحلياً، وأن حلم العودة إلى سوريا لا يزال موجوداً.
من يتابع ما قامت به تركيا منذ احتلالها أراض سورية عام 2016 حتى الآن يرى أنها عملت على "تتريك" المنطقة، بعد أن دعمت المليشيات المسلحة وأمدتها بالمال والسلاح لمحاربة الجيش العربي السوري، فضلاً عن دخول دباباتها على خط المعارك لمساندة المسلحين في حلب، ولاحقاً في إدلب.
هذا الدور لم ينته مع انحسار المعارك في سوريا، بل اتخذت تركيا من مناطق مسلحيها في إدلب موطئ قدم لتمارس سياسة أخطر من الاحتلال العسكري المباشر، ألا وهي سياسة "التتريك" للمناطق الواقعة تحت سيطرتها، من خلال إصدار بطاقات تعريفية للسوريين القاطنين في هذه المناطق، التي تسيطر عليها.
بعد تطبيق "قانون قيصر" من قبل الإدارة الأمريكية على الدولة السورية والمتعاملين معها، سعت تركيا إلى تثبيت نفوذها في سوريا، مستغلة الانهيار الاقتصادي الذي حدث في تلك الفترة، وطرحت عملتها في المناطق التي تسيطر عليها، اعتقاداً منها أن استبدال الليرة التركية بالسورية سيجعل اقتصاد شمال سوريا جزءاً من نسيج الاقتصاد التركي.
وأغرقت أنقرة المنطقة المحتلة بالسلع التركية، وعلى الأرض أنشأت هيئات إدارية ومجالس محلية، تكون السلطة الفعلية فيها للحكام الأتراك، ورفعت الأعلام التركية على العديد من المنشآت والمباني الحكومية، كما غيرت أسماء الشوارع والساحات وفرضت أسماءً جديدة ذات مدلولات تركية وعثمانية، إضافة إلى إصدار الهيئات التابعة لتركيا أوراقاً ثبوتية للسكان وسندات ملكية جديدة.
وعلى الصعيد الثقافي، بدأت سلطات الاحتلال التركي تدريس المناهج بإشراف من وزارة التعليم التركية باللغتين العربية والتركية، وافتتحت فروعاً لجامعات تركية هناك.
لقد أصبح من المؤكد أن تركيا تسعى إلى رسم خارطة جديدة على الحدود مع سوريا تمكنها من تنفيذ مشروعها التوسعي في المنطقة، والهادف إلى قضم مزيد من الأراضي السورية، ضارباً عرض الحائط بكل القوانين الدولية، فقد قال رئيسها مراراً: "لو فهمنا الميثاق الملي، حينها سنفهم مسؤوليتنا في سوريا والعراق".
السؤال الآن: متى دخلت تركيا إلى أراضٍ وخرجت منها؟ أليست هي من تحتل لواء الإسكندرون السوري منذ عام 1939؟ وشمال قبرص منذ عام 1974؟ وقامت بإنشاء قاعدة في منطقة "بعشيقة"، شمال العراق، في كانون الأول/ديسمبر 2015، والتي تبعد 20 كيلومتراً عن الموصل؟ أليس الرئيس التركي هو من أرسل جيشه للقتال في ليبيا تحقيقاً لطموحات عثمانية كما صرح هو بنفسه أكثر من مرة؟ أليس هو من طالب بتعديل اتفاقية "لوزان" حين يحل عام 2023؟
والسؤال الأكبر والأهم: هل نحن على أعتاب مأساة جديدة كمأساة لواء الإسكندرون؟! وهل ستسمح الظروف الدولية بذلك أم أن تنافر مصالح الدول الكبرى في سوريا سيحول دون تحقيق هذه "الكارثة الجديدة" بحق سوريا وشعبها؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة