أول طاولة تترأسها إدارة "بايدن" لمناقشة الأزمة السورية ستُعقد في روما، اليوم الاثنين، حيث تجتمع أطراف التحالف الدولي لمحاربة "داعش".
ولأن هذه الطاولة على هامش اجتماع دول التحالف، فهذا يعني أن الأزمة، من وجهة نظر واشنطن، "لا تزال ثانوية" أمام مهمة الحرب على التنظيم الإرهابي بين نهرَي دجلة والفرات.
"طاولة روما" تبعث برسائل أكثر بكثير مما تحمل قرارات. والرسائل موجهة إلى روسيا بالدرجة الأولى، ثم دول المنطقة الراغبة بتحريك المياه الراكدة في الأزمة السورية. وسبب الركود هو الولايات المتحدة، التي تريد تعطيل الحلول لغاية ما في نفسها، لا يتضح منها إلى الآن سوى "رغبة مبطّنة" ربما بتقسيم سوريا لدول عدة.
خلال السنوات العشر الماضية، لم يبذل "البيت الأبيض" جهداً حقيقياً لإنهاء الأزمة السورية لصالح الحكومة أو خصومها، سواء في عهد الرئيس دونالد ترامب أو سلفه باراك أوباما.
ومع حضور هامشي لهذه الأزمة خلال قمة جينيف بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي جو بايدن، يبدو أن الأمر سيبقى على حاله.
ثمة دلالة أيضاً على هذه النتيجة المستخلصة تتمثل في تأكيد واشنطن قبل بضعة أيام ثبات موقف إدارة "بايدن" من الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري، وسبب التأييد، كما أوضح وزير الخارجية أنطوني بلينكن، هو أن الجولان "صمام أمان لأمن إسرائيل القومي على الحدود الشمالية طالما أن أوضاع سوريا لم تستقر".
الإشارة الثالثة لاستمرار الأزمة السورية دون حل إلى أجل غير مسمى، تكمن في محاولة الاتحاد الأوروبي تجديد اتفاقية اللجوء الموقعة مع تركيا عام 2016.
فالتكتل الأوروبي يريد تحسين هذه الاتفاقية لتصبح أكثر فاعلية وحماية لدوله حتى عام 2024، وفي هذه المحاولة تشم رائحة المعارك، التي يمكن أن تتفجر في شمال سوريا بأي لحظة.
لن تنتهي الأزمة السورية ما دامت الولايات المتحدة باقية في منتصف الطريق، ولأن دوام هذه السلبية يقود إلى نتيجة واحدة مفادها "تكريس انقسام الدولة على المدى الطويل"، يحاول المبعوث الأممي جير بيدرسون تقريب المسافات بين المعنيين، لعله يحثُّ أمريكا على بعض الإيجابية في التعامل مع الأزمة.
"بيدرسن" يعتزم زيارة موسكو قريباً لإطلاق حوار دولي جديد حول الأزمة السورية، ولكن لا بُدَّ قبلها أن يمر على روما لمعرفة مدى انفتاح المجتمعين هناك على مثل هذا الحوار، وبالأخص الولايات المتحدة.
من ثمّ يأتي ترتيب أجندة الحوار عبر اتصالات وزيارات عديدة للمبعوث الأممي مع عواصم عدة حول العالم.
يعرف "بيدرسون" أن جُل ما يشغل بال الولايات المتحدة اليوم هو تعاون روسيا في استمرار عمل معابر المساعدات الإنسانية بمناطق خارج سيطرة الحكومة السورية، لذلك أعلن تأييده للأمر دون شروط، ولفت نظر موسكو إلى أهميته، إنْ كانت حريصة على التقارب مع واشنطن والحصول على بعض المكاسب لصالح حكومة دمشق.
إذا قبلت روسيا بتمديد عمل المعابر الإنسانية مع تركيا والعراق تحت قبة مجلس الأمن الشهر المقبل، فهذا يمنحها استثناءً في تجاوز العقوبات الأمريكية، ولو بشكل محدود، لتوفير الدعم الإنساني والاقتصادي للحكومة السورية.
ترفض واشنطن التطبيع غير المشروط مع الحكومة السورية، لكن المشكلة أن شرطها المعلن في هذا الأمر، والمتمثل في إحراز تقدم بتطبيق القرار الأممي 2254، لا تبذل هي نفسها أي جهد لتحقيقه، بل إنها أكثر مَن يُعيق تطبيقه بعدم ضمّها الكُرد، الذين تدعمهم في سوريا، إلى مفاوضات جينيف المعنية بذلك القرار.
قبيل اجتماع روما، أكدت الولايات المتحدة أنها ستُبقي على قواتها في سوريا، أما تركيا فهي تستعد لتوسعة ما تسميه بـ"الحزام الأمني" خارج الحدود الجنوبية لها.. هذان المعطيان، إضافة إلى المنافسة الإيرانية الروسية في غرب ووسط وجنوب سوريا، كل ذلك يعني أن تلك الأزمة ممتدة لأعوام عديدة.
تدرك بعض الدول العربية، الراغبة في فتح أبواب الحوار مع دمشق مجدداً، هذه الحقائق وهي تحاول إقناع الولايات المتحدة بضرورة البحث عن صِيَغٍ عملية جديدة لحل الأزمة السورية، تجنباً لخيار تقسيم البلاد أو تدهور أمن المنطقة، أي إنها لا تبحث عن نُصرة طرف سوري على آخر، وإنما عن حلٍّ يتنازل فيه الجميع لصالح الجميع.
ما تمارسه هذه الدول هو الدفع نحو مكاشفة، يتجنّب خصوم دمشق وحلفاؤها الخوض فيها، فكل المعطيات، التي اتُّخذت القرارات وصُنعت التحالفات على ضوئها في الأزمة السورية قبل سنوات، تغيرت الآن، وبات لزاماً على الجميع النظر إلى واقع الحال هناك بعملية وواقعية أكثر.
المبعوث الأممي جير بيدرسون يوافق أيضاً على هذه النظرية، ولذلك فهو يريد حواراً دوليا جديداً بشأن سوريا، ولعل أبرز بنود هذا الحوار كما يتصوّره "بيدرسون" أن تتبادل الأطراف المعنية الخطوات باتجاه حل الأزمة، بمعنى الاتفاق على صيغة الحل، والخطوات المطلوبة والجدولة الزمنية لتنفيذه من قبل الجميع معاً ودون تأخير.
ثمة حاجة ملحة لصيغ أنجع من مفاوضات جينيف.. ليس فقط لأن عناوينها فضفاضة، وإنما لأنها تفترض بأن الأزمة تدور بين طرفين واضحين سوريًّا، بينما الحقيقة هي أنها متعددة الأطراف داخليا وخارجيا، كما أن لكل طرف منها مصلحة في استمرار الأزمة، ومصلحة أخرى في معالجتها سريعاً.
لن يربح أحد في الأزمة السورية بنهاية المطاف، ومَن يظن نفسه قادراً على رسم مستقبل البلد، والمنطقة عموماً كما يشتهي، فهو يتجاهل حقيقة أن المعادلات الدولية والإقليمية لا تتخذ أبداً طابع الديمومة، مهما بدت ذكية في وقت من الأوقات، كما أن هذه المعادلات قابلة للتغيير بما يلائم المستجدات في كل زمان ومكان.
ربما يتوجب على أمريكا أولاً أن تقبل بهذه الحقيقة قبل غيرها، ومن ثمَّ تبدأ بربط مصالح الأطراف السورية والدولية بـ"إنهاء" الأزمة وليس بـ"استمرارها"، حينها يمكن القول فعلا إن واشنطن تريد حل هذه الأزمة، التي تنزف منذ عشر سنوات، وكما يقول ابن رشد: "الحكمة هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة