أحتاج إلى جهد كبير لتصديق "خشية" الرئيس جو بايدن من عدم إتمام اتفاق نووي قبل تسلم الرئيس الإيراني الجديد مهامه رسميا.
فهذه الرواية، التي نُقلت عن مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية لم تُحدد هويته، تنطوي على مفارقات عديدة تجعلها مستعصية على التصديق، ولو من باب الدعاية السياسية.
أولى هذه المفارقات هي أنه قبل بدء الجولة السادسة من مفاوضات فيينا، عندما كان الجميع متفائلين بقرب إبرام اتفاق جديد مع إيران، قال ناطق باسم "البيت الأبيض" إن محادثات فيينا قد تحتاج إلى جولة سابعة وربما ثامنة وتاسعة، وبالتالي لا يوجد ما يستدعي من واشنطن التفاؤل ولا القلق أيضا، فبدا الأمر كأن لسان حال المتحدث يقول: الاتفاق وعدمه سيان بالنسبة لإدارة بايدن.
قبل الانتخابات الإيرانية، سواء بأسابيع أو بأيام، لم تقدم الإدارة الأمريكية إشارة واحدة بأنها تفضل حكومة الإصلاحيين على المحافظين في إيران، ولم تقل أيضاً إنها ستسرع سير مفاوضات فيينا على أمل أن يستفيد الرئيس المنتهية ولايته، حسن روحاني، وتياره من فرصة الاتفاق الجديد، من أجل حشد الإيرانيين خلف ذلك المرشح الإصلاحي، الذي هُزم أمام إبراهيم رئيسي.
لقد سربت الرواية الأمريكية عشية احتفال المحافظين في إيران بفوزهم، الذي توقعه الجميع منذ أن اختار المرشد الأعلى لإيران قائمة مرشحي الانتخابات الرئاسية على مقاس "رئيسي"، ولم تعترض الولايات المتحدة على القائمة حينها رغم أن "رئيسي" مدرج بقائمة عقوباتها لانتهاكه حقوق الإنسان، وها هي اليوم تستعد لمصافحته والتفاوض معه على اتفاق نووي جديد، أو إحياء القديم ذاته.
بمجرد إعلان فوز "رئيسي"، خرجت منظمة العفو الدولية مطالبة بتحقيق جنائي معه بتهمة التورط في جرائم ضد الإنسانية.
الأمينة العامة للمنظمة، أنياس كالامار، قالت إن "رئيسي" متورط في جرائم قتل واختفاء قسري وتعذيب، وانتخابه رئيساً للدولة يذكر بسيادة سياسة الإفلات من العقاب في إيران.
في الواقع، مَن يشجع على تمدد هذه السياسة في إيران هو الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وتحديدا الإدارات الديمقراطية، التي تحاول إطلاق وصاية ما على المنطقة مقابل توقف إيران عن تصنيع القنبلة النووية، وكأن مشكلة المنطقة والعالم الوحيدة مع إيران هي تلك القنبلة.
لم يفقد "رئيسي" أو أي مسؤول في إيران "شرعيته" أمريكياً، رغم القتل والتعذيب والترهيب والإرهاب الذي تمارسه إيران بحق الداخل والخارج منذ عام 1979، فهي –أي إيران- تدعم شخصيات ومليشيات بالمنطقة قاطعتها واشنطن وباتت تعتبرها إرهاباً، ولكن ذلك لم يمنع الرئيس الأسبق باراك أوباما، ومن بعده بايدن، من إبرام اتفاق مع إيران والحوار معها.
يعرف العالم بأكمله أن المرشد الأعلى وبطانته في الجيش والدين والسياسة، هم من يحكمون إيران منذ ما يزيد على أربعة عقود، ولكن المعايير الأمريكية "المزاجية" في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط، سمحت لإيران بالتحول إلى ذلك الشر، الذي يريد منك أن تفاوضه كي لا يقتلك أو يدمرك.
ثمة مزيد من التصريحات الرسمية مجهولة الهوية، تكشف عن زيف "الخشية" الأمريكية من المحافظين الإيرانيين، فقبل حتى أن تغلق صناديق الاقتراع بإيران خرج مسؤولون من وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" ليعلنوا نية واشنطن سحب بطاريات باتريوت وأنظمة "ثاد" وطائرات مقاتلة من دول عربية.
لن تفيد تلك الخطوة الأمريكية أحداً سوى إيران، وادعاء واشنطن بأنها ملتزمة بأمن حلفائها في المنطقة حتى بعد سحب سلاحها وقواتها، هو تضليل لمن تيقنوا بأن الولايات المتحدة تفضل الشرق الأوسط في حالة مستمرة من الفوضى واللا استقرار، ولا تمانع هيمنة الإسلام السياسي القادم من تركيا أو إيران.
ثمة جانب حقيقي، ولكنه ليس جوهرياًّ، في "الخشية" الأمريكية من الحكومة الإيرانية المقبلة، يتمثل باحتمال سعيها للمماطلة في مفاوضات فيينا لتحرج "بايدن" أكثر أمام العالم وحلفائه، لعلها بذلك تنتزع بعض الامتيازات والمكرمات الجانبية، التي لم تكن حكومة "روحاني" لتصر عليها لو أنجز الاتفاق النووي معها.
المماطلة، التي قد تمارسها إيران عبر حكومة "رئيسي" ليست من أجل تصنيع قنبلة نووية تعجز عن استخدامها، وإنما من أجل تفجير أزمات جديدة أو تعقيد الأزمات الحالية، كي تُبقي أمريكا تدور في فلك الحاجة لنظامها، وتُبقي المنطقة في حالة توتر في علاقاتها البينية من جهة، وفي علاقاتها مع أقطاب العالم الكبرى في الغرب والشرق من جهة أخرى.
ثمة دول في المنطقة تكشفت لها ملامح اللعبة الإيرانية، وأدركت مجاراة الولايات المتحدة لها، إذ ذهبت نحو حلول خاصة بها، وتماهت مع اللعبة مستغلة مواطن القوة لديها، لكن لم يعد هناك لاعب واحد، ولم تعد دول المنطقة مستقبلة سلبية لما يحاك لها في الخفاء.
هناك ما تخشاه الولايات المتحدة فعلاً في التعامل مع حكومة "رئيسي"، وهو أن المتشددين في إيران سيكشفون وجه العلاقة بينهم وبين واشنطن، وهذا قد يعطل خططاً حيكت مسبقا لجعل المنطقة برمتها معلقة بحبل طويل من الفوضى تشده أمريكا كلما شاءت وشعرت بالقلق على مصالحها.
تريد أمريكا أن تتفرغ لجبهات أخرى حول العالم، ولكنها لا تريد الرحيل كليا عن المنطقة، خشية فراغ يملؤه غيرها.. الحل حينئذ ببساطة يكمن في الفوضى، وكما يقول دوستويفسكي مع قليل من التصرف: من يحترفون إثارة الفوضى هم الذين لا يملكون حلاً للمشكلات، ولكن يبحثون عن الزعامة وسط هذه الفوضى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة