أزمة تشكيل حكومة ليست مرتبطة بتوافق الرئاسات الثلاث والمكونات اللبنانية، وإنما بعدم الاستقرار المرشح للاستمرار حتى مع تشكيل حكومة.
واهم من يتصور أن نجيب ميقاتي، الذي سبق أن اختبر من قبل، قادر على فرض حالة استقرار كامل والخروج بلبنان من أزمة هيكلية تحتاج بالفعل إلى مزيد من الجهود والدعم الداخلي والإقليمي والدولي، وهو أمر يبدو مركزا في الموقف الفرنسي بالأساس، في ظل مبادرة لا تزال الأصلح للتعامل مع تطورات الأوضاع اللبنانية، بصرف النظر عن تشكيل أي حكومة جديدة، ورغم ما اعترف به "ميقاتي" من أنه حصل على ضمانات خارجية لتسهيل مهمته، داعيًا جميع الأطراف السياسية إلى التعاون والابتعاد عن المناكفات لتجنيب لبنان مصير الانهيار.
المدخل الرئيسي لما سيجري مرتبط بتوافقات حقيقية ودعم مباشر، عبّر عنه "تيار المستقبل" برئاسة سعيد الحريري و"حركة أمل" برئاسة رئيس البرلمان، نبيه بري، وتيار "المردة" برئاسة سليمان فرنجية، وكتلة "الوفاء للمقاومة" برئاسة "حزب الله" الإرهابي، إضافة إلى الحصول على دعم الميثاقية في التشكيل، أي التمثيل المسيحي، إذ إن هناك ما يفوق 20 نائبا مسيحيا سيعطون تأييدهم لـ"ميقاتي" لتشكيل الحكومة، ثم التوصل إلى خطوة إيجابية لبدء المسار الممتد للبنان.
ليس مطلوبا من "ميقاتي" إطلاق تصريحات عامة للتهدئة والتقارب، وإنما ترجمة ما يجري إلى مواقف وتوجهات يتراضى بها الجميع، وبالتالي فإذا التزم "ميقاتي" ببيان رؤساء الحكومات، فؤاد السنيورة وسعد الحريري وتمام سلام، فسيكون ذلك مدخلا جيدا يحتاج فقط إلى تعامل من نوع آخر مع "حزب الله"، الذي لديه حسابات محددة مع "ميقاتي"، حسب معادلة سياسية مركزة لن يتخلى عن عناصرها، خاصة أنه بعد الاتفاق على اسم "ميقاتي" بدت في الواجهة السياسية محاولة لإرضاء الطائفة السنية، فـ"ميقاتي" هو مرشح رؤساء الحكومات الأربعة السابقين، وبينهم سعد الحريري.
في كل الأحوال، فإن "ميقاتي" أمام مهمة دقيقة، وحال وضع مهلة زمنية لنفسه يكون قد تجاوز الفشل، بينما إذا انصاع لحالة الضغوطات المطروحة من "حزب الله" وباقي المكونات السياسية الأخرى سيكون بذلك قد أفشل الحكومة قبل أن تُشكَّل أو تؤدي عملها.
وفي كل الأجواء الراهنة المرتبكة والمعقدة، سيقع على عاتق الحكومة المقبلة التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، كخطوة أولى لإخراج لبنان من الأزمة الاقتصادية، التي صنفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وإعادة واضحة للتوازنات الإقليمية والدولية للداخل اللبناني على قاعدة يتعادل فيها وزن "حزب الله" وعلاقاته المشبوهة في الإقليم.
وبالتالي، فإن الظروف الإقليمية والدولية ستكون مناسبة لتشكيل الحكومة اللبنانية والانطلاق إلى مرحلة أخرى، عبر توافقات إقليمية ودولية، وجعل لبنان قادرا على منع توتير الصراعات الكامنة والمعلنة، في مرحلة تبدو فيها القوى الإقليمية والدولية كمن يعيد بناء قواها في مراكز حضورها وانتشارها السياسي والاستراتيجي الراهن.
وستظل مخاوف الرأي العام اللبناني قائمة ومطروحة من أن يكون تكليف "ميقاتي" مُسكّنا مؤقتا لأزمات لبنان الكبيرة، والتي تحتاج إلى جهد ضخم وعمل دائم، على اعتبار أن المعادلة الراهنة أكبر من مجرد تشكيل حكومة، لتدخل في منظومة أكبر وصور متعددة في الانتخابات البرلمانية والتحضير للصراع القادم على موقع الرئاسة، وفي قلب ما يجري سيبقى دور "حزب الله" مراقبا، مؤيدا أو معوقا، وفق حسابات ضيقة تنطلق من بُعد إقليمي، ومنفذا لإرادة إيرانية.
وفي ظل تخوف حقيقي مما قاله الرئيس ميشال عون من أنه لن يعطي "ميقاتي" ما لم يعطه لسلفه، رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري، ومواقف التيار الوطني الحر التصعيدية، التي بلغت حد التهديد بالاستقالة من المجلس النيابي، تأكد بوضوح أن هذا التيار، الذي يمثل "عون" وجبران باسيل، لن يكف عن عرقلة أي حكومة جديدة لا تخضع لشروطهما، مع تأكيد أن "ميقاتي" قد يصطدم بالحسابات والمصالح نفسها، التي أبعدت "أديب" و"الحريري"، مع العلم أن هناك أكثر من مؤشر على أن "حزب الله" بات مدركاً أن فرصة استمرار انفراده الفعلي بالحكم، منذ سقوط حكومة "الحريري" في 29 أكتوبر 2019، عملية مكلفة، مع الرهانات الحقيقية على ما سيقوم به "ميقاتي"، وفي مقدمته وقف الصرف من الاحتياطي النقدي للبنان، ووضع خطة إصلاح لمشاكل المعيشة، مع تأكيد تشكيل الحكومة من تكنوقراط لا وجود للمحاصصة فيها، ودعم برنامج إصلاحي متكامل يكون جواز مرور لفتح صفحة جديدة مع المجتمع الدولي طلباً لمساعدة اقتصادية لوقف انهيار لبنان من ناحية، وإعادة تطبيع علاقاته بالدول العربية والغربية، التي تأثرت بفعل سياسة "حزب الله" من ناحية أخرى.
كل ذلك، مع العمل على ألا تتحول الحكومة -كما في السابق- إلى مجموعة من الحكومات، حيث لا يحبّذ "ميقاتي" تشكيل حكومة سياسية أو فنية، انسجاماً مع ما أعلنه سابقا قبل أن يعتذر مصطفى أديب عن عدم تشكيل الحكومة، فليس من الوارد البحث عن ذرائع لدخول مواجهة مع المجتمع المدني، إذا ما تم تدعيم التشكيل الحكومي بوجوه سياسية قد تمثل تحدياً للذين يحمّلون منظومة الحكم بأكملها مسؤولية دفع لبنان إلى الانهيار، وإن كان هذا لن يمنع إعادة تثبيت توزيع الحقائب السيادية على الطوائف، كما كانت عليه في الحكومات السابقة، كما أن "حزب الله"، الداعم لتكليف "ميقاتي"، قد يطور موقفه وصولاً إلى مراجعة تسميته.
من المؤكد أن "ميقاتي"، كما قال بنفسه، ليس لديه عصا سحرية، وأن الموقف صعب، ولكنه درسه ولديه ضمانات دولية، وبوسعه النجاح إذا تعاون الجميع، رغم التسليم بوجود تحديات كبرى في التعامل مع سياسة تقاسم السلطة في لبنان، لتأمين اتفاق على حكومة تقف في وجه أزمة مالية غير مسبوقة، ومن ثم فإن المطلوب منه إجراء توافقات سياسية واقتصادية وتربيطات إقليمية، بل ودولية متعددة وعلى مستويات مختلفة، لضمان استمراره بنجاح في موقعه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة