في العاصمة البريطانية تقيم فنانة لبنانية معرض صور لمتطوعين ينظفون أرض مرفأ بيروت من آثار الانفجار، الذي وقع هناك قبل عام واحد.
الصور تحكي قصص من قضوا في تلك النكبة، ومن يعانون بسببها حتى اليوم، ولكن واقع الأمر، الذي تراه جليا في ملامح الوجوه أو بين ركام الخراب، هو أن الجميع ضحايا لنكبة أكبر مستمرة في ذلك البلد الصغير منذ عقود.
لم يُنصَف الذين قضوا في الانفجار أو تشردوا أو عانوا بسببه، ولم يعرف اللبنانيون من ارتكب الجرم ومن يتحمل مسؤوليته.
غرقت الحقائق مع أجزاء من حطام المرفأ، وتراكمت فوقها مخلفات أزمات عدة مرت على البلاد خلال عام كامل، حتى ضاع الأثر وضاع معه الأمل في أن يكون حظ ضحايا انفجار المرفأ أفضل من ضحايا تفجير موكب رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005.
لقد أثبتت الأيام أن نكبة المرفأ لم تكن حدثا تتوقف عنده أشكال القهر التي يعيشها اللبنانيون منذ عقود.
والأسوأ أن الذكرى السنوية الأولى للانفجار تحل والجميع يترحم على تلك الأيام التي سبقته.
فخلال العام الأول لنكبة المرفأ، انهارت الليرة اللبنانية أمام الدولار، وتضاعفت أسعار السلع مرات عدة، كما تضخمت قوائم العاطلين عن العمل، وبات أكثر من نصف السكان عاجزين فعليا عن تأمين قوتهم اليومي.
كارثة المرفأ هزت العالم، ولكنها لم تستطع تحريك تعاطف "زعماء" البلاد تجاه الضحايا.
تداعت الدول لمساعدة اللبنانيين، ولكن "الزعماء" لا يستعجلون الحلول.. يدّعون أن أحدا لم يأت بمبادرة مناسبة، ولكن الحقيقة أن كل المبادرات وُئدت من قبل الأطراف، التي تضع مصالحها قبل مصالح الدولة، وتربط مصير لبنان بالأزمات الخارجية، التي تحيطه وتزداد تعقيدا يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام.
كارثة لبنان تكمن في التعطيل.. تعطيل تشكيل الحكومة، تعطيل التحقيق في انفجار المرفأ، تعطيل إنجاز الإصلاحات الاقتصادية، تعطيل التصالح مع المحيط العربي، ترسيم الحدود البرية والبحرية، تنفيذ أحكام المحكمة الدولية الخاصة بمقتل رفيق الحريري، تغيير قانون الانتخابات، تطبيق اتفاق "الطائف" بصيغته الأصلية، وقائمة طويلة لا تنتهي من الإجراءات التي من شأنها تحسين وضع البلاد.
أساس التعطيل في لبنان يكمن في "حزب الله"، الذي يعتقل الدولة بأكملها ويرهنها لصالح إيران، فالحزب هو الوحيد بين الأطراف اللبنانية، الذي يستفيد من كل تعطيل مهما بلغ حجمه وأياً كان سببه، وذلك لأن أجندته لا تتعلق بالداخل بقدر ما هي مسخرة لصالح الخارج الإيراني، وما يسمى بـ"محور المقاومة"، الذي يحرص على بقاء المنطقة بأكملها تدور في فلك "حرب مقدسة" لا تحصل ولن تحصل.
قد يجد البعض في ذلك مبالغة ويقول إن كل الأحزاب في لبنان فاسدة، و"القادة" متورطون فيما وصلت إليه البلاد اليوم.. وهذا صحيح تماماً، لكن الحقيقة أن كل شيء في لبنان، شخصا كان أم حدثاً أم مؤامرة، يستمر على "قيد الحياة" فقط لأن "حزب الله" يُبقي لبنان في دائرة أطماع إيران وأزماتها في المنطقة، ويجعلها ورقة من أوراق طهران في مفاوضاتها مع العالم بشأن أسلحتها وأطماعها.
وبينما يمارس حلفاء "حزب الله" في "العهد القديم" تعطيل أي محاولة لتشكيل الحكومة اللبنانية، يواظب الحزب على إغراق البلاد في أزمات المنطقة، ويفتعل مشكلات خارجية تزيد من عزلة الدولة عربياً.
وما تردُّدُ دول عربية مؤثرة في المشاركة بمؤتمر "باريس 4" لدعم لبنان إلا دليل واضح على هذا السلوك، وعلى فقدان ثقة الجوار بقدرة الغرب، أو نيته بتعبير أدق، في تحرير لبنان من هيمنة إيران.
المعادلة بالنسبة لكثير من الدول العربية باتت واضحة اليوم، إن كان الغرب جديا في حل أزمة لبنان، فعليه أن يتعامل مع المشكلة الصغرى المتمثلة في هيمنة "حزب الله" على الدولة، والمشكلة الكبرى المتمثلة في أطماع إيران في جوارها واعتداءاتها على دوله.. دون ذلك يكون كل شيء بمثابة تسويف لا مبرر له، ومماطلة الهدف منها إبقاء المنطقة برمتها تحت وطأة القلق والفوضى وانعدام الاستقرار.
يدرك الأوروبيون والأمريكيون أن المشكلتين الصغرى والكبرى قد تفاقمتا إلى حدود ليست متوقعة، فهم يتساءلون اليوم كيف يمكن إقناع إيران بحق شعوب المنطقة في حياة كريمة إن كانت هي تحرم شعبها من المياه وتقتل كل من يتظاهر ضد النظام أو يطالب بتحسين شروط حياته؟.. فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لا تهمه حياة الإيرانيين لن يكترث بحياة السوريين أو اللبنانيين أو اليمنيين أو العراقيين.
وبالنسبة لأكثرية اللبنانيين بات هذا واضحا، ولا طاقة لهم لتحمل المزيد من مشكلات غيرهم، كما لا يمكنهم الصبر إلى حين صياغة اتفاقية "سايكس-بيكو" جديدة للمنطقة.
قلة قليلة فقط من هذا الشعب المضطهد لا تزال تدعي أن "المقاومة" أكثر أهمية من الدواء والتعليم والطعام والشراب، وهذه القلة تشعر بقلق شديد، لأنها ترى حال البلاد تزداد سوءاً، ومن تؤيدهم لا يفعلون شيئاً في المقابل.
لم يفرق الموت في انفجار المرفأ بين "مقاوم" و"غير مقاوم"، ولم ينجُ "المقاومون" من لهيب الأسعار عندما أصبحت آلاف الليرات لا تشتري قليلا من الحليب للأطفال، كذلك لم ينعم "المقاومون" بوافر الصحة عندما عجزت الصيدليات عن توفير الأدوية.. كل ما حصل عليه "المقاومون"، دون غيرهم، هو العمل في صناعة المخدرات وحضور مناسبات يهتفون فيها لـ"السيد": "لبيك نصر الله"!
هؤلاء الذين علقت صورهم في لندن وهم ينظفون شوارع مرفأ بيروت وأرصفته، لم يفعلوا ذلك لأنهم مقاومون، بل لأنهم يتمنون أن تبعث الروح في بلادهم وتنتفض ثانية من تحت الأنقاض وركام الموت والدمار.. لم يتطوعوا من أجل "الزعماء" ولا من أجل إيران.. جاؤوا فقط "من أجل بيروت".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة