المشكلة في لبنان تكمن في رئاسة الدولة وليس الحكومة.
فرئيس الجمهورية ميشال عون، لا يريد أن يغادر قصر "بعبدا" إلا بعد أن يورث الكرسي لصهره، رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل.
لا يهمه كيف، ولا يهمه التحالف مع الشيطان لأجل ذلك، حتى لو كان الثمن انهيار الجمهورية وفناء الشعب كله.
المشكلة في "عون" بقدر ما هي في صهره، فهو من قايض على الوطن بالكرسي أولا عندما تحالف مع "حزب الله" الإرهابي قبل سنوات، وبالتالي لن يلتفت الصهر إلى أي التزام وطني أو إنساني يمنعه من تكرار الوصفة المجربة والمضمونة للحصول على كرسي الرئاسة، أما بالنسبة لـ"باسيل" فالطريق إلى قصر "بعبدا" يمر من الضاحية الجنوبية.
هناك في تلك الضاحية، يجلس الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، بانتظار تسلم رئيس إيران الجديد لمهامه، فيفرج عن خطط طهران إزاء المنطقة، وإن كان فيها ما يسمح بولادة حكومة لبنانية، سيرفع "نصر الله" الحصانة عن قصر "بعبدا" ويسمح بمرور تشكيلة وزارية لا تمس بمصالح "حزب الله" والإيرانيين.
وحتى يحين الوقت، لا يكترث "حزب الله" الإرهابي لما يحدث وسيحدث بين "عون" وصهره من جهة، وكل خصومهما السياسيين من جهة أخرى.. لا يهمه أبداً إن حاول رئيس تيار المستقبل، سعد الحريري، أو غيره تشكيل حكومة، ولا يلقي بالا لتراكم المبادرات الفاشلة لحل أزمة لبنان، سواء كانت داخلية أو عربية أو غربية.
أولوية "حزب الله" في تنفيذ الأجندة الإيرانية بلبنان واضحة، وعلى هامش هذه الأولوية يمكن الاستمرار في معاقبة "الحريري" على استقالته نهاية أكتوبر 2019.
فحينها طلب "حزب الله" من "الحريري" مجاراة خطته لاحتواء المظاهرات الناقمة على تردي الأوضاع، ولكن الأخير رفض وفضل أن يغرد خارج السرب.
قبل أكتوبر 2019، كان "الحريري" جزءا من "العهد القديم"، الذي جمع تيارَي "الوطني الحر" و"المستقبل" مع الثنائي الشيعي "حزب الله" و"حركة أمل"، وهو العهد الذي جاء بـ"الحريري" إلى رئاسة الحكومة، وبـ"عون" إلى رئاسة الدولة، أما المقابل بالنسبة لـ"حزب الله" فكان التحكم في مفاصل الجمهورية اللبنانية كما يشتهي ما يسمى "محور المقاومة".
لـ"الحريري" طبعاً أسبابه السياسية في فض تحالفه مع "العهد القديم"، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أن البلاد في ظل ذلك العهد قد تداعت اقتصاديا وماليا، ولم يعد من المفيد انتخابيا وشعبيا بقاء "الحريري" على رأس حكومة مشلولة ومعلقة بانتظار إذن من إيران للتعامل مع العالم وتوفير حاجات الناس من طعام وشراب.
كان قرار "الحريري" بالانسحاب حينها صائباً من حيث المبدأ على الأقل، وهو صائب اليوم للمبدأ ذاته، الذي يختصر أزمة لبنان برمته بمزاجية الصهر الحالم بالرئاسة، وهذا لا يعبر عن قوة ونفوذ هذا الصهر كما يظن البعض، وإنما يجسد اليد الطولى، التي يتمتع بها "حزب الله" في الدولة اللبنانية، وقدرته الكبيرة على التعطيل.
للصهر الحالم بالرئاسة فوائد عديدة بالنسبة لـ"حزب الله" بعيدا عن تنفيذ الأجندة الإيرانية في لبنان والمنطقة.
فمقابل موافقة الحزب على تعطيل الصهر لتشكيل الحكومة وإحداث أي تغيير سياسي أو اقتصادي في البلاد، تغض رئاسة الجمهورية وكل المؤسسات التابعة لها، النظر عن ممارسات الحزب غير الشرعية.
دعم الصهر الحالم بالرئاسة يُمكّن "حزب الله" من تهريب الأموال والسلاح والسلع، زراعة الحشيش وصناعة المخدرات، ترتيب الأوضاع السياسية والطائفية والاقتصادية في مناطق سيطرته قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة، التحكم بالمفاوضات البحرية مع إسرائيل، تعزيز ترسانته العسكرية محليا ومن الخارج.
الصهر أيضا يحمي "حزب الله" من سخط بعض الدول الأوروبية بشكل غير مباشر، فهو من يتصدر مشهد التعطيل السياسي والاقتصادي في لبنان، وبالتالي يظهر الحزب كأنه مجرد متفرج على خلاف مسيحي-سُني لا ناقة له فيه ولا جمل.. ليس هذا فقط، وإنما يحث الأطراف جميعها على الوحدة والالتزام باتفاق "الطائف".
الأطراف الخارجية والداخلية المعنية بالأزمة تعرف جيدا هذه المسرحية، وقد وصفها سعد الحريري بدقة واختصار في مقابلته التليفزيونية الأخيرة، عندما شخّص مشكلة لبنان بـ"تحالف حزب الله مع رئيس الدولة وصهره، والأخيران يستمتعان بالفراغ، ويمارسان المماطلة في تشكيل الحكومة لغاية معروفة لدى الجميع".
"عون" وصهره ينتظران نضوج عهد جديد يوصل "باسيل" إلى رئاسة الدولة، والوقت هنا يوفره "حزب الله" لهما ولنفسه، ولكن الأمر يشبه الرقص على حواف الهاوية.
صحيح أن "حزب الله" يهيمن على الدولة، و"عون" وصهره يمثلان تكتلا مسيحيا كبيرا في لبنان، ولكن المسلّمات قد تتغير عندما تأتي على لقمة عيش الناس.
في ذلك البلد المتوسطي الصغير تكبر النقمة في نفوس الشعب بأكمله يوما بعد يوم، وحتى الذين يؤمنون بانتماءاتهم الدينية والحزبية تتسع عندهم رقعة الشك بقادتهم الذين لا يأبهون بجوع أطفالهم أو مرضهم أو تعثر تعليمهم. وكلما امتد الزمن بالحانقين والغاضبين، انقلب الولاء إلى نكران، وتغيرت التبعية إلى تمرد.
بقي شيء واحد يجب على الصهر الحالم بالرئاسة أن يضعه في حسبانه، ألا وهو أن "حركة أمل" لا تفضل وجوده في قصر "بعبدا"، وما دام نبيه بري يترأس هذه الحركة، فإن "حزب الله" الإرهابي لن يضع نفسه في مواجهتها مهما كان السبب.
صحيح أن كل شيء في عالم السياسة يمكن أن يتغير، ولكن إرث "باسيل" بالنسبة للداخل والخارج يصعب تجاوز كبواته وغفران خطاياه.
يحتاج الأمر إلى عمل شاق وتضحية كبيرة جداً، ولا أحد في لبنان يريد أن يضحّي، من وجهة نظر "الحريري" على الأقل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة