"التعطيل" مصطلح أفرزته طبقة الحكم، فواقع "السلطة ضد الدولة" تَجَسد فيها خلال العامين الماضيين بطريقة فاقعة، فصار لبنانيا حصريا.
يظهر بين الفينة والأخرى مسؤول لبناني من هذا الحزب أو ذاك، من هذا الموقع أو غيره، متحدثا عن أسباب وحيثيات الفشل المتنامي الذي يضرب أوساط الطبقة السياسية اللبنانية القابضة على السلطة ومقاليدها ويمنعها من العمل على إخراج البلاد والعباد من عنق الزجاجة، كأنه يتبرأ من المسؤولية عن الواقع الناشئ بمجرد إلقائها على عاتق غيره.
يعيش لبنان حالة فريدة مما يمكن تسميته "دينامية الفشل".. ينتقل بفعل طبقته السياسية من إخفاق إلى آخر.. ما أن يقفز من دائرة أزمة حتى يجد نفسه في حوض من مجموعة أزمات.
تضخمت السلطة لدى بعض رموز حكمه حتى باتت تتوهم أنها أكبر من الدولة مفهوماً وتطبيقاً وعملا.
خلال بضعة عقود خلت، انتقلت الدولة اللبنانية تدريجيا من مفهومها السياسي والقانوني، الذي لم يستقر إلا بشكل نسبي في فترة زمنية محددة أعقبت اتفاق الطائف عام 1989 حتى بدايات الألفية الجديدة، إلى صيغة "ما قبل الدولة" منذ أن أفصحت المظاهر المليشياوية، تشكيلاً وممارسة وسلوكا، عن نفسها على حساب مؤسسات البلد الرسمية والدستورية. تراكمت على مدى العقود الأربعة الأخيرة من تاريخه المعاصر مخلفات أحداث وتبعات صراعات متنوعة التصنيفات والغايات والحيثيات.
الانحدار المتدرج بصورته الشاملة الذي يعيشه لبنان، الدولة والناس، ويضرب في الوقت الراهن أوصاله كافة، لا يبدو، كما يعتقد البعض، نتيجة ما بات يعرف بـ"الاستعصاء" في تشكيل الحكومة فحسب.
مؤسسة الرئاسة قائمة من حيث الشكل، وكذا الحال بالنسبة للبرلمان.. تشكيل حكومة لبنانية غاية في الأهمية كركيزة ثالثة لنظام الحكم القائم. السؤال الأكثر حضورا: لو تشكلت الحكومة، فماذا يمكن لها أن تفعل في مواجهة غول الانهيار الاقتصادي المتسارع، وآفة الجوع بمعناه "المادي" الذي يفتك ببعض الشرائح الاجتماعية؟ وسخط الشارع وغضبه على الطبقة السياسية الحاكمة وعلى التيارات والقوى الحزبية التي تدور في فلك السلطة بطريقة وبأخرى؟ ألم يهتف اللبنانيون في كل ساحاتهم "كلّن يعني كلّن"؟ الوعي المجتمعي المتحرر من ربقة الأيديولوجيات الحزبية والمليشياوية والمناطقية تبلور في المظاهرات المناهضة للطبقة السياسية والحزبية ورموزها على شكل غضب عابر للطوائف وللأحزاب.. برهن بإرادة واعية على تجاوزه أمراض الطبقة السياسية برمتها.
يواجه لبنان اليوم تحدياً وجوديا لكياناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. سبيله لمنع الوصول إلى الأسوأ، إعادة إحياء الخيارات الوطنية الذاتية من خلال بلورة تفاهمات تتجاوز الدوائر الحزبية الضيقة التقليدية، وتأخذ بعين الاعتبار خيارات القوى المجتمعية الناشئة، والتي عبرت عن وجودها الفاعل في ساحات التظاهر منذ أكتوبر 2019.
فَرادَة "المحنة" اللبنانية بمظاهرها المختلفة تفتح باب الاحتمالات الكثيرة بشأن مسار الأزمة ونتائجها.. الجميع، أحزابا وتيارات وقوى وتكتلات ومجتمعا، واقع تحت ضغط الحاجة الماسة للعبور بأقل الخسائر إلى الضفة الأخرى.. جدلية أيهما أولوية: الإصلاحات السياسية والاقتصادية أم تشكيل الحكومة باتت مطروحة بوضوح على موائد اللبنانيين.
الاستعصاء ناجم عن جملة واسعة من الأزمات البنيوية والهيكلية المتجذرة في لبنان، فاقمتها الارتهانات الخارجية من قبل بعض القوى اللبنانية.
أكثر ملامح الخطر على الدولة والمجتمع تتجلى حين يستثمر البعض في الأزمة الاجتماعية-السياسية لمآربه الحزبية أو المذهبية أو المناطقية.
لا تكاد تخلو حقبة زمنية، ولا بقعة جغرافية على جزء واسع من اليابسة من بصمة لبنانية، حضارية أو فكرية أو فنية، إبداعية بشكل عام، لذلك يتوهم من يسعى إلى وضع لبنان أمام واحد من خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يكون لي ما أريد وحسب، وإما الطوفان.
استعادة الدولة وهيبتها لا يُستجدى من الخارج.. الاستفادة من الدعم الخارجي مهمة للعبور إلى ضفاف الاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي شرط ألا يكون على حساب المعايير الوطنية الداخلية.
الظروف لا تزال مواتية للبنانيين، كل اللبنانيين، لتحويل الكابوس الذي يكابدونه إلى فرصة وخيار أمل.
الاحتكام للدستور القائم يبدو في هذه الفترة الصعبة أهم الملاذات الجامعة للقاء الفرقاء على مختلف انتماءاتهم، الحزبية والسياسية، من أجل تجنيب البلاد والعباد منزلقاً أكثر خطورة.
تنحية الأجندات الخاصة بكل طرف مدخل لا مفر منه على سلم النهوض مجددا.. لبنان اليوم أحوج ما يكون إلى تنازلات الأطراف جميعها من أجل التعافي داخليا، والعودة إلى بريقه ودوره وألقه في محيطه، بل وأبعد من ذلك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة