أثير جدل في دولنا الخليجية حول المقارنة بين ردة الفعل على قصف المسجد الأقصى وقصف الكعبة.
بعد أن تزامنت محاولة تدنيس الأقصى من قبل الإسرائيليين ومن قبل الحوثيين للكعبة المشرفة، وفتح هذا الجدل دملاً تركناه من دون علاج وما زلنا نعالجه موضعياً حين ينفجر ثم نغطيه خشية فتحه وعلاجه جذرياً.
هؤلاء الذين فزعوا نصرة للأقصى وسكتوا عن نصرة الكعبة برروا ذلك السكوت بتبريرات لم تصمد أمام حرارة الجدل فذابت. شبابنا مؤمن ومقتنع بأن دفاعه عن مقدسات الأمة لا يتعارض مع سكوته عن دفاعه عن الكعبة المشرفة باعتبار أن الكعبة لديها من بعد الله جيش سعودي يحميها، أما الأقصى فلا قوة مسلحة مسلمة تحميه، ورغم أن الانقسام كان سياسياً مغمساً بالدين قسراً عجز عن تفكيكه شبابنا الممزق بين "الأمة" و"الدولة"، إلا أن علينا أن نعترف بأن المعضلة بين الاثنتين هي دمل تأجل فتحه لعقود لا يتحمله جيلنا الحالي بل نتحمل نحن تأجيل علاجه.
يصارع جيل الألفية الثانية بين مفاهيم ورثناها له جيلاً بعد جيل مفادها العلاقة بين رابط "الأمة" الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، مع رابط الوطن، ولطالما مررنا بهذا المفهوم من دون حساسية على أن الأمة تكتل بشري لا يتعارض مع رابط "الوطن" التكتل الأصغر، ولا يتعارض استحقاق "الأمة" مع استحقاقات "الدولة القُطرية".
فأن تدين بالولاء للأمة وأن تفزع وتساعد أبناء الأمة لا يعني أنك ألحقت الضرر بالوطن أو بالدولة، ولطالما علمونا أن وحدة الأمة هي المنتهى والمطلب الذي نسعى له، ولتحقيقه نبذل الغالي والنفيس، وأن ذلك لا يتعارض مع حبنا للوطن وانتمائنا له؛ فأوطاننا جزء من الأمة في نهاية المطاف.
وسواء كنا نتحدث عن الأمة العربية أو الأمة الإسلامية فالمعادلة واحدة؛ نحن نتحد بأوطاننا خدمة للأمة العربية، والأمة العربية تتحد وتضم معها الأوطان الإسلامية ونصل إلى الحلم الجميل بوحدة الأمة الإسلامية.. كل ذلك كان يتم بسلام حين لم يكن هناك اصطدام أو صراع أو معارك بين دولة عربية وأخرى عربية أو بين دولة عربية وأخرى أجنبية كما هو الحال اليوم.
وبغض النظر عن الأسباب التي أدت لهذا الصراع، إلا أن الأجيال التي حفظت تلك المعادلات وجدت نفسها اليوم ممزقة بين الأمة من جهة والوطن من جهة أخرى بعد أن تقطعت السبل بين هوية وهوية، بين دول ودول، عربية وعربية، وعربية وأجنبية مسلمة، وجد هذا الجيل نفسه مجبراً على الاختيار بين أمته أو وطنه، ومن اختار أحدهما اعتبر خائناً للآخر.
هذه المفاضلة تحتاج لإعادة غرس في الأجيال القادمة، فهي معضلة تأجل تفكيكها منطقياً لعقود طويلة من دون أن تحسم جدلياً، لأننا اعتقدنا أنه لن يأتي اليوم الذي تتعارض فيها مصالح الاثنتين "الدولة" و"الأمة"، وقد تناول هذه المعضلة الفكرية وصراع الهويات الكثير من المفكرين العرب مثل عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري، كما تناولها أمين معلوف وغيرهم، ولم تأخذ أي من أنظمة الدول العربية تلك المعضلة الفكرية في الحسبان على أنها مهدد لكيان الدولة، إلى أن وقعت الفأس في الرأس واستقطبت دول إسلامية شباباً عربياً ليعمل خدمة لأجندة دولها ومصالحها بعد أن أقنعتهم بأنها تسعى وتمثل "الأمة الإسلامية"، ليجد شبابنا أنفسهم اليوم في مواجهة هذا الصراع والتمزق الفكري، وهو الذي يريد أن يكون مسلماً مطيعاً لربه ومواطناً صالحاً ولكنه مهدد بتهمة الخيانة إن انضم لأحد هذين الفسطاطين.
لقد استهان الكثير منا بهذه المعضلة الفكرية ولم يأخذوها بجدية ولم يتوقعوا حجم تجذرها ولا أثرها وتبعاتها، ومعالجتهم لها - حتى اللحظة - كانت وما زالت دائماً سطحية وتكتيكية لا استراتيجية وهناك فرق شاسع، وإن زادت حدتها وتورط شبابنا في أعمال مخالفة للقانون تهدد أمن الدولة تعاملنا معها أمنياً، بمعنى أننا كنا نقطع رأس جبل الجليد كلما طفح ونترك الجذر والقاعدة ليعود الرأس للنمو من جديد... وهكذا حتى بعد زلزال الربيع العربي.
بعض شبابنا يتحمس لنصرة الجماعات الدينية باعتبارها تعمل على خدمة الأمة الإسلامية، وهناك آخر يخوَن هذه الفئة لأنها تضع يدها في يد من يعادي دولها وتعتبره أقرب لها من أنظمة وطنه التي في نظره تخدم الدولة لا تخدم الأمة، ونحن بتجاهلنا هذه المعضلة الفكرية وعدم عنايتنا بمعالجتها فكرياً وعدم حسمنا لها سنظل تحت رحمة دول أجنبية تتبنى مفهوم "الأمة" وتنصب به فخاخ التجنيد لشبابنا العربي.
لقد جرى نقل معادلة غير واقعية لأجيالنا وهي أن استحقاقات الأمة والدولة لم ولن تتعارضا، ونحن المسؤولون الآن عن تفكيك هذا المنطق من جديد وإعادة صياغته للأجيال القادمة.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة