لماذا ينتقل "أردوغان" من النقيض إلى النقيض في علاقته بمصر؟ لماذا يُعادي طويلاً، ثم يطلب المصالحة بإلحاح غير طبيعي.
وأخيراً يتخذ مواقف ويدلي بتصريحات تنسف كل ادعاءات الرغبة في المصالحة مع مصر؟
عرضنا بالأمس منهج "أردوغان" القائم على أربع سلوكيات:
1- إطلاق تصريحات تبدو أخلاقية ومبدئية تُناقضها أفعالٌ ومواقف.
2- الوصول بالخلافات والصراعات إلى حافة الهاوية.
3- استخدام سياسات الابتزاز السياسي عبر عمليات عسكرية، احتلال أراضٍ، بيع سلاح، تغيير تركيبة ديموغرافية، تسليح وتدريب ونقل مرتزقة.
4- الانتقال من العداء إلى التحالف أو فض التحالف واللجوء إلى العداء مرات ومراتٍ دون أي خجل سياسي أو شخصي.
المسألة عند "أردوغان" هي استخدام كافة الأدوات: سياسة، إعلام تحريضي، عمل استخباراتي، عمليات عسكرية نوعية، احتلال مناطق، سيطرة اقتصادية، قرصنة بحرية، تصريحات نارية، بيع سلاح، تعاون مع أقليات، تعاون مع جهات إرهابية حتى لو كانت "داعش".
باختصار، الرجل "تاجر أزمات"، يبتزُّ أمنياً واقتصادياً من أجل هدف أساسي وجوهري، وهو المغانم الاقتصادية.
في العراق عينه على نفط الموصل–كركوك وتسويق البضائع التركية.
في سوريا عينه على نفط سوريا، واحتمالات غاز الساحل السوري، وتسويق البضائع التركية.
في ليبيا عينه على غاز الساحل الليبي والتدخل بحصة في غاز شرق المتوسط، وعوائد النفط الليبي لاستخدامها في دعم البنك المركزي التركي.
وفي ليبيا أيضاً يريد إعطاء 120 شركة تركية نصيب الأسد في إعادة الإعمار وتسويق الصناعات التركية.
بالطبع هناك أهداف جيواستراتيجية، وهناك ذلك الحلم الخاص به في بناء ما أسماه "تركيا القوية"، التي تجعل من "أنقرة" الأستانة الجديدة وعاصمة المشروع العثماني الجديد بدءاً من عام 2024.
العنصر الضاغط بشدة على أحلام ومشروعات الرجل هو الانخفاض التاريخي لليرة التركية مقابل العملات الأخرى، وزيادة البطالة بين الشباب، وارتفاع التضخم، بالإضافة إلى تقلص شعبيته وشعبية حزبه كما أظهرت آخر انتخابات بلدية في المدن الثلاث الرئيسية: أنقرة، إسطنبول، إزمير.
ما يثير جنون "أردوغان" هو عدم وجود غاز يمكن استكشافه قبالة السواحل التركية رغم انتشار هذا الخزان التاريخي في "شرق المتوسط"، من الجُزُر الإيطالية إلى اليونان إلى قبرص إلى ليبيا، سوريا، إسرائيل، لبنان ومصر.
في كل هذه السواحل هناك اكتشافات غاز هائلة، إلا في تركيا.
يزعجه أيضاً أنّ فاتورة الطاقة السنوية، التي تتحملها الموازنة التركية، لا تقل عن 50 مليار دولار.
الأزمة عند "أردوغان" أنه لا يرضى أبداً بقواعد اللعبة مهما كانت ملزِمة، ولا بحقائق الطبيعة حتى لو كانت طاغية، ولا بنصوص المعاهدات الدولية والقانون الدولي حتى لو كان معمولاً به على الجميع.
هنا يأتي تركيز "أردوغان" الأخير على مسألة نقل الغاز الهائل من المنطقة إلى العالم، بمعنى، إذا كان غير قادر على أن تكون لديه حصة في الاستكشاف فلتكن بلاده ذات الموقع الجيواستراتيجي وصاحبة مضيقي البوسفور والدردنيل، هي "المركز الإقليمي"، الذي تمر فيه عمليات نقل هذا الغاز.
أدرك "أردوغان" منذ أشهر قليلة أن مصر، التي نجحت في ترسيم حدودها البحرية مع دول شرق المتوسط بشكل قانوني دولي، والتي تمتلك بنية تحتية ممتازة في الطاقة واستكشاف الغاز والإسالة، وقامت باتفاقيات ربط غاز وبترول وكهرباء، ستكون المركز الإقليمي الأكبر لهذا الملف.
وغضب "أردوغان" بشدة من تحوّل مصر، إلى أن تصبح القاهرة هي مركز المنتدى الإقليمي من خلال تشكيل منظمة "منتدى الغاز للمتوسط"، والتي تضم دول شرق المتوسط، بالإضافة إلى السعودية والعراق والأردن وفلسطين وإسرائيل.
لإتمام ذلك، لا بد من الإجابة عن سؤال الأسئلة، والذي يعتبر مسألة حياة أو موت بالنسبة لأردوغان وهو: هل نقل هذا الغاز عبر هذه التركيبة وهذا التحالف من خلال اليونان وليس تركيا؟
حلم أردوغان ومسألة المسائل عنده هي أن يتم تجميع خطوط الإمداد من روسيا وإيران والعراق وقطر، بالإضافة إلى خطوط التجميع، التي تصل إلى مصر ولتصبح تركيا، وليس اليونان، نقطة الارتكاز والنقل إلى أوروبا وبحر قزوين.
من هنا، يصبح الدور التركي المتداخل بملفات في ليبيا وسوريا وغزة وإثيوبيا مرهون بأن يكون متعاوناً أو معادياً، بناء على سلوك مصر في مسألة "تلزيم" تركيا ملف نقل وتجميع الغاز.
الرد المصري، الذي نُقل بشكل واضح عبر اللواء عباس كامل، رئيس المخابرات المصرية، بصراحة وقوة هو:
1- نحن مع الأفعال وليس الأقوال، ومع تنفيذ الوعود وليس إبداء -فقط- النوايا الحسنة.
2- لا حديث في أي تعاون أو تقارب أو تطبيع حقيقي للعلاقات الثنائية قبل قيام الجانب التركي بمجموعة مطالب، محددة من الجانب المصري، كاملة دون تباطؤ ودون مراوغة ودون تجزئة.
3- في ملف دعم تركيا للإرهاب مطلوب من الجانب التركي:
أ- تسليم مجموعة محددة بالأسماء على يدها دماء، مصنفة على أنها إرهابية، صدرت ضدها أحكام، وتحظى بالرعاية واللجوء من الجانب التركي.
ب- إيقاف أي نشاط إعلامي معادٍ أو تحريضي من الأراضي التركية.
جـ- توقف الدولة التركية عن تقديم الدعم الكامل لجماعة الإخوان المسلمين المصرية.
4-وفي الملف الليبي تظهر حالة "التناقض الأردوغاني" المتعارضة بين القول والفعل.
المطلب المصري، كما أوضحه فريق المخابرات المصرية، الذي التقى نظراءه من المخابرات والخارجية التركية، كان واضحاً لا يقبل أي مقايضة أو تلاعب او ابتزاز.
المطلب المصري هو قيام تركيا بسحب كل القوات السورية الإرهابية، التي نقلتها ودربتها وسلّحتها وأتت بها من سوريا إلى تركيا، ومنها إلى غرب ليبيا.
بالطبع هذه الوعود التركية تبخّرت حينما قام وزير الدفاع التركي بزيارة غير معلن عنها سابقاً، ولم يتم إخطار الجانب الليبي بها، إلى القاعدة العسكرية التركية، مما يعتبر انتهاكاً خطيراً لقواعد السيادة الوطنية.
وجاء في تصريحات الوزير التركي، وهو يخاطب كبار ضباطه هناك، أن القوات التركية في ليبيا جاءت بطلب رسمي لما أسماه "السلطة الشرعية والحكومة المعترف بها دولياً".
وأضاف أن القوات التركية "لا تنطبق عليها صفة القوات الأجنبية المطلوب انسحابها".
المطلب المصري صريح: انسحاب هذه القوات وأي قوات أجنبية وأي مرتزقة وتفكيك كل المليشيات العسكرية.
وكما تكون معادلات ومقايضات السياسة، أو عمليات الابتزاز المعاصرة، فإنّ أردوغان يلعب مع مصر لعبة "ليبيا مقابل حصة من الغاز" كاستكشاف وكنقطة تجميع نحو أوروبا وبحر قزوين.
قد يفهم أردوغان أموراً كثيرة من مثل هذه المناورات، لكنه -حكماً- يجهل ثلاثة أمور جوهرية في هذا الملف:
1- يجهل قانون الفعل ورد الفعل عند المصريين.
2- يجهل حجم عمق ذاكرة المصريين تجاه مَن أحسن ومَن أساء إليهم.
3- يجهل سيكولوجية المؤسسة العسكرية المصرية تجاه قضايا الأمن القومي.
4- الجهل الأعظم عند أردوغان هو أنه لا يعرف أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لا يمزح ولا يتنازل قيد أنملة في المصالح العليا لبلاده مهما كان الثمن.
نقلا عن الشرق
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة