لعقود طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، كان التسلح الذي أثمر صناعة السلاح النووي، سببا مباشرا لما عرف بالحرب الباردة بين أمريكا وروسيا.
أما اليوم، فإن الحرب بين العملاقين صارت خفية، تختلف عن الحرب الباردة في القرن الماضي، حرب اليوم تعتمد على سرقة بيانات وتدمير ملفات، وأسلحتها "سيبرانية"، وهي حرب لا شك أن لها جانبا عنيفا من حيث الاختراقات والقرصنة ونشر الفيروسات، حيث أصبح من الصعب اليوم تخيل صراع عسكري دون أن يكون لهذا الصراع أبعاد إلكترونية، لذلك فإنه من الطبيعي أن يكون الرئيسان "بايدن وبوتين" قد ناقشا ما يعرف بـ"الاستقرار الاستراتيجي".
كان لا بد من هذه المقدمة، بعد أن وقف كل العالم على قدميه متابعا تداعيات ما يمكنني أن أطلق عليه "لقاء العمالقة بين بايدن وبوتين"، بعد ساعات من نعْت "بايدن" نظيره الروسي بـ"القاتل"، وبعد أن أعرب الجانبان غير مرة عن أن العلاقات بينهما "بلغت الحضيض"، وكان أول ما سمعناه في واشنطن، تعليقا على انطلاق هذا اللقاء، أن فلاديمير بوتين سيعتبر نفسه فائزاً حتى قبل إقلاع طائرته إلى جينيف، لأن الاجتماع وضعه على قدم المساواة مع زعيم العالم الغربي، وبعد أن ادعى "بايدن" أنه حذره من خطوط حمراء، على موسكو ألا تحاول أبدا تجاوزها، مثل عمليات التجسس والهجمات الإلكترونية والتدخل في الانتخابات،
ومهما يكن من أمر، فإن النقطة الوحيدة التي يتفق عليها "البيت الأبيض" و"الكرملين" قبل عقد هذا اللقاء هي أن العلاقات بين البلدين في أدنى مستوياتها.وقبل ذكر الرؤية العامة لهذا اللقاء داخل أروقة السياسة الأمريكية هنا في واشنطن، تحليلاً لما سيتبع هذا اللقاء، فلا بد من الإشارة إلى أن هناك كثيرا من القضايا الخلافية التي تمت مناقشتها وتم الاتفاق على تنفيذها، مثل تطبيع العلاقات وإعادة السفيرين إلى كلِّ من واشنطن وموسكو، بينما كان البحث في الخطوات اللاحقة في مجالات أخرى مثل مجال الرقابة على الأسلحة بهدف خفض مخاطر نزاع غير متعمّد، وهذا ما سيتم بحثه في إطار حوار ثنائي، تمهيداً لاتفاق شامل واستراتيجي حول الرقابة على الأسلحة، حيث شملت المباحثات أهمية التمديد الأخير لمعاهدة الحدّ من الأسلحة الهجومية-الاستراتيجية أو ما يعرف بـ"ستارت 3"، كذلك موضوع الأمن السيبراني والاتهامات الأمريكية القديمة-الجديدة فيما يتعلق بالهجمات السيبرانية، التي تقول واشنطن إنّ هناك من يقف وراءها من داخل روسيا.
وكان لافتا جدا ما أعلنه "بايدن" من أنّه سلّم نظيره الروسي 16 قطاعاً حيوياً "الطاقة وإمدادات المياه وغيرها..." التي لا يمكن المساس بها، وأنّ الولايات المتحدة لن تتسامح مع محاولات الاعتداء على سيادة الديمقراطية الأمريكية، وستردّ على أيّ محاولة للمساس بمصالحها أو مصالح حلفائها، وهي تمتلك القدرات الضرورية لذلك.
أما في الشأن الأوكراني، فقد كشف بايدن عن اتفاقه مع بوتين على اللجوء إلى الدبلوماسية لحل خلافاتهما بشأن البلاد التي تشهد نزاعاً مسلحاً منذ 2014، بناء على اتفاقية مينسك، وأنه أبلغ بوتين بـ"التزام الولايات المتحدة الثابت بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها".
ويبقى الملف المرتبط بحقوق الإنسان أساسيا في لقاء كهذا، فقد قال بايدن إنه أبلغ بوتين أن "حقوق الإنسان ستكون دائماً على الطاولة"، مضيفاً أنه "أوضح لنظيره الروسي أنه سيواصل التحدث علناً ضد القضايا التي توجد فيها مخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان".
وأضاف بايدن: "قلت له إن هذا حمضنا النووي، هذا ما نحن عليه"، منتقداً كلام بوتين الأخير عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وواصفاً إياه بـ"السخيف".
المواقف هنا في واشنطن حول هذا اللقاء أكثر من أن تحصى، حيث يرى بعض المحللين أن روسيا هي أكبر التحديات التي تنتظر حلولاً من إدارة بايدن عبر إعادة صياغة العلاقة مع موسكو وحلف "الناتو"، وكذلك تنسيق العمل مع الحلفاء لمواجهة الصين، بالإضافة إلى التحدي الداخلي الذي تنتظره أجندته الاقتصادية.
وبينما أجمعت معظم الصحف الأمريكية قبيل اللقاء على أن لقاء بايدن ببوتين لن يكون سهلاً على الجانب الأمريكي، فإن "وول ستريت جورنال" رأت أن بوتين وافق على عقد الاجتماع لإظهار أهمية موقع بلاده على الساحة الدولية، دون أن يكون مستعداً لتقديم كثير من التنازلات، بينما كانت صحيفة "ذا هيل" الأمريكية الموقع الأكثر تغطية لهذا الحدث قبل وفي أثناء وبعد هذه الجولة الخارجية الأولى لجو بايدن، وكان أول ما قالته: "ليس من الكافي بعد الآن أن يكون جو بايدن معاكساً لسياسات ترامب وحسب، بل سيتعيّن عليه تطبيق وعوده على أرض الواقع، وأول اختبار له سيكون مع بوتين، ولطالما كان بايدن حازماً في تصريحاته حول روسيا والزعيم الروسي فلاديمير بوتين، وعليه أن يكون واضحاً في النتائج التي سيتمكن من التوصّل إليها بعد لقائه مع بوتين".
أما الحزب الديمقراطي، فقد توقّع بعض أعضائه مسبقا نتائج متواضعة للقاء القمة هذا، حيث قال كريس مورفي، عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي: إن القمة ستفتح الباب بين واشنطن وموسكو ليكون هناك مفاوضات مستقبلية حول السلوك الروسي العدواني والاستفزازي للولايات المتحدة، ولكن من غير المتوقع التوصّل إلى نتائج فورية، بينما نقلت "فورين بوليسي" انتقادات السيناتور الجمهوري "بن ساسي" لقاء بين بايدن وبوتين، حيث قال: "بدلا من معاملة بوتين مثل رجل عصابات يخشى شعبه سنعطيه خط أنابيب نورد ستريم 2 الثمين، ونضفي الشرعية على تصرفاته من خلال قمة، وهذا يعبر عن ضعف".
أيضا رأى الباحث في معهد هدسون للدراسات، مايكل برجينت، أن "البيت الأبيض لم يحقق شيئا يذكر من خلال عقد القمة مع بوتين، الذي كان الرابح الأول من هذا اللقاء"، وصرح لإحدى القنوات الأمريكية بـ"أن عدم وضع شروط أمريكية قبل عقد القمة هو تنازل.. اللقاء بحد ذاته هو تنازل".
لكن يبقى الأكثر تأثيرا في هذه التغطية الاستثنائية لهذا اللقاء ما أعده "تال أكسلرود"، عبر تقرير نشره موقع "ذا هيل" الإلكتروني بعنوان "غالبية الناخبين يقولون إن بايدن أحرز تقدماً في القمة مع بوتين، وبحسب استطلاع، فإن أغلبية من الناخبين الأمريكيين يقولون في استطلاع جديد للرأي إن الرئيس جو بايدن حقق على الأقل بعض التقدم خلال قمته هذا الشهر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، وقال 21% من الناخبين المسجلين في استطلاع جديد لمركز الدراسات السياسية الأمريكية ومركز هاريس للرؤى والتحليلات التابعين لجامعة هارفارد، إن بايدن حقق تقدماً "ذا مغزى" في اجتماع جنيف، في حين قال 31% آخرون إنه أحرز "بعض التقدم"، وقال 32% من الناخبين إنه "لم يتم إحراز أي تقدم"، وقال 15% آخرون إنهم "غير متأكدين".
يمكنني القول من خلال كل ما سبق، إن عنوان قمة جينيف بين بوتين وبايدن كان "الاتفاق على التهدئة" أو قد نقول "هدنة مؤقتة"، فلا أنا ولا غيري كنا نتوقع أن تسود القمة أجواء من "الثقة"، أو أن تسفر القمة عن أي قرارات "تاريخية" أو "مصيرية"، لأن الثقة لا تزال معدومة أو شبه معدومة، فقد كانت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية قبيل القمة في أدنى مستوياتها منذ عقود، وعلى جميع المستويات، السياسية والاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية.
أيضا يمكنني الجزم بأنه لا حرب باردة جديدة بين البلدين، فمثل هذه الحرب لا تصّب في مصلحة أحد كما يصرح بايدن دائما، وهذا يعني أنّ آفاقاً جديدة بدأت تأخذ طريقها إلى تحسين العلاقات بين الدولتين العظميين، والتي شهدت كما هو معروف "حرباً باردة" متصاعدة و"صراعاً أيديولوجياً"، حيث تهاوت الأنظمة الاشتراكية بلداً بعد آخر، وانهار الاتحاد السوفييتي السابق في نهاية عام 1991، منشطراً إلى 15 دولة، بعضها أصبحت حليفة للغرب وعضواً في حلف الناتو وعدوّاً شديداً لروسيا.
أما تأثير ذلك اللقاء على المسرح العالمي فلا أظن أن نجاح القمة النسبي يمكن أن يدخل العالم في مرحلة استجمام، فروسيا لم تعد القوة القادرة على لجم جميع الأطراف المحسوبة عليها في بؤر التوتر، وأيضا لا بد من انتظار مستجدات التحالف الروسي الصيني، الذي ربما كان أهم أهداف القمة غير المعلنة بالنسبة لواشنطن.
وسنبقى نحن في الشرق الأوسط، كما العالم، في حالة ترقب وحذر وانتظار متجدد لخطط استئناف مفاوضات "الاستقرار الاستراتيجي"، الذي يرعاه البلدان، بهدف وضع الأرضية المناسبة للمفاوضات المستقبلية الهادفة إلى الحد من التسلح النووي، والتأثير المطلق وشبه المطلق في كثير من أزمات العالم لهاتين القوتين العظميين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة