المؤشرات التي صدرت عن الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ وصوله إلى البيت الأبيض تحمل نهجا سياسيا جديدا في مسار علاقات واشنطن مع موسكو وبكين.
"بايدن" لم يتردد في وضع كل دولة من الدولتين في خانة المنافسة والتهديد الاستراتيجي لبلاده على مختلف الصُّعُد، السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
لا يجهل الرئيس الأمريكي القواسم المشتركة الجامعة بين الصين وروسيا في مجالات حيوية ذاتية لكل منهما، والتي يمكن أن تشكل رافعة لتعميق التفاهمات والاتفاقات بينهما، والانتقال عبرها إلى مدارات وتحالفات عميقة تتجاوز حدود التعاون الثنائي اقتصادياً وأمنياً وسياسياً إلى تخوم تحالف عسكري عماده تلك الركائز بمجملها.
ما احتمالات انتقال العلاقات الروسية الصينية من التعاون إلى التكامل ثم التحالف؟ وما الأسباب التي يمكن أن تشكل دافعاً لمثل هكذا تحالف؟ وإلى أي مدى تدفع مقاربات الرئيس الأمريكي بايدن تجاه الصين وروسيا كلاّ منهما إلى التقارب أكثر مع الآخر، والذهاب نحو صياغة جديدة لعلاقاتهما محورها مواجهة التهديد الأمريكي المشترك لكليهما؟ وهل تمتلك الصين ما يلبي مطالب موسكو لمثل هكذا تحالف؟، وما البدائل الروسية التي تقدمها للصين لتقوية خيارات المواجهة المشتركة لواشنطن؟
لقد رسمت مقاربات الرئيس الأمريكي الكثير من الاستفهامات حيال مدى قدرة واشنطن، رغم عظمتها وإمكاناتها الهائلة في جميع القطاعات، على السير بشكل متوازٍ في مواجهة الصين وروسيا مجتمعتين وإن اختلفت محرضات وغايات كل خط.
"بايدن" يوجس خيفة على المدى الاستراتيجي من إزاحة الصينيين لبلاده من على عرش الاقتصاد والتجارة العالميين في ضوء ما تحققه بكين من نتائج متسارعة، ولذلك يعتبرها تهديداً ماثلاً وضاغطا في هذا المضمار، بينما يصنف روسيا في خانة التهديد العسكري لأسباب قديمة جديدة لم تتغير أو تتبدل حيثياتها، باعتقاده، رغم زوال ما كان يعرف بالكتلة الشرقية الشيوعية وحلف وارسو، فهو يعتبر موسكو وريثة تلك الأيديولوجية المنافسة والمعادية لحلف شمال الأطلسي وللغرب عموما وعلى رأس القائمة الولايات المتحدة الأمريكية.
في مقاربتيه آنفا، لا يبدو الرئيس الأمريكي بعيدا عن المنطق، فروسيا حتى الآن هي الدولة الوحيدة في العالم المنافسة للولايات المتحدة من حيث القوة العسكرية.
والصين أصبحت المورّد الأول للكثير من السلع الأساسية التي تحتاج إليها أسواق العالم، وطورت أنظمة تنافسية متقدمة بحكم كونها هي من ينتج السلع التي يحتاج إليها المستهلكون في كل مكان، الأمريكيون كالأوروبيين كسكان المعمورة كلهم، وجعلتها، بسبب أسعارها الرخيصة، في متناولهم، وتمكنت من منافسة منتجات أسواقهم المحلية، وصولاً إلى إسهامها في إعادة تشكيل أنماط حياة البعض.
مجالات التعاون الروسي الصيني تنامت خاصة منذ توقيع الجانبين معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون في عام 2001.
وشهدت العلاقات تطوراً مستمرا في السنوات الأخيرة على المستوى الاقتصادي والتنموي بالدرجة الأولى، والسياسي والعسكري بدرجة أقل. تعزز التعاون الثنائي في القضايا الإقليمية والدولية، علاوة على توقيع اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية، والتعاون الرقمي، وإطلاق مشاريع البنية التحتية الداخلية والمشتركة، وتعزيز قطاع المشاريع المالية المشتركة، والغاز الطبيعي، ومشاريع الممرات البرية والبحرية، وأهمها مشروع "ممر بحر الشمال"، حيث تلتقي مصالح روسيا مع الصين هناك، روسيا تستخرج الغاز الطبيعي والبترول وتصدره، والصين تحصل على احتياجاتها من الطاقة بشكل دائم.
الاعتقاد السائد لدى صانع القرار الأمريكي الحالي ينطلق من هاجس خطورة ماثلة ربما تتحول إلى خطر داهم من جانب الصين وروسيا على بلاده ومستقبل زعامتها، هاجس لا يخلو من معطيات واقعية لكنه في الآن ذاته يثير التكهنات حول إمكانية مواجهته مجتمعاً، نظراً لحجم وتنوع ومجالات وخيارات الطرف الآخر المستهدَف من جانب واشنطن.
استنادا إلى إمكانات الجانبين، الصيني والروسي، في حال تكاملت تحت يافطة تحالف عميق واستراتيجي، يبرز التساؤل الأكثر واقعية: لماذا يلجأ بايدن إلى خيار مواجهتهما دفعة واحدة؟ أليس حريّاً به أن يبلور استراتيجية مواجهة محددة المعالم والسياقات والأهداف مع كل دولة بمعزل عن الأخرى ما دامت طبيعة التحدي، الذي تمثله روسيا مغايرة لحيثيات التحدي الذي تفرضه الصين؟ فالتحدي الأول عسكري-أمني، أما الثاني فاقتصادي-تجاري.
مروحة العقوبات الأمريكية على روسيا والصين واسعة ومتفاوتة الميادين والقطاعات، لكنها لم تلجم توجهات وخطط أي من المستهدَفَين في الاستفادة من خياراته الذاتية والخارجية.
موسكو لديها أسواقها البديلة لتصدير منتجاتها العسكرية وتواصل سياساتها القائمة على حماية مصالحها حيث توجد.. بكين تجد في كل سوق عالمية موطئ قدم لمنتجاتها ولم تغلق نوافذ عبورها إلى الخارج.
لا يتوقف الأمر عند مناهضة العقوبات أو الالتفاف عليها، فقد ذهب الجانبان، الصيني والروسي، إلى تفاهمات للتعاون من أجل مواجهة مشتركة لسياسة واشنطن العقابية، وبثّا رسائلهما عبر السياقات العسكرية من خلال المناورات المشتركة في بحر الصين الجنوبي وبحر شرق الصين وبحر اليابان خلال السنوات القليلة الماضية.
اقتصادياً وعلمياً دفعت الدولتان المسارين بينهما نحو آفاق تصاعدية بإنشاء صناديق مشتركة لتعزيز البحث في المجال التكنولوجي، كصندوق الاستثمار المشترك للابتكار عام 2019، وأكاديميات العلوم الروسية والصينية في مجال الذكاء الاصطناعي عام 2018.
من المبكر الحكم على نهج بايدن وسياسته ضد أكبر خصمين لبلاده، سواء من حيث الفاعلية والمردود، أو من حيث الارتدادات على الولايات المتحدة مستقبلا.. خيارات موسكو وبكين مجتمعة تبدو أكثر رحابة واتساعا في المنازلة الناعمة مع واشنطن حتى الآن، وتعزيز تعاونهما على قاعدة تلاقي مصالحهما هو الأرجح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة