كما ذكرنا من قبل، يبدو أن المواجهة الأمريكية-الصينية تتحول إلى منافسة ضارية، أو إذا جاز التعبير إلى "حرب تكنولوجية".
فالولايات المتحدة ترى أنه يمكنها الوقوف في وجه صعود الصين، بإيقاف قدرة شركاتها على الوصول للتكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، وكانت أولى المجابهات بين الطرفين حرمان الشركات الصينية التكنولوجية العملاقة من بعض المنتجات التكنولوجية الحيوية مثل أشباه الموصلات، وردّت الصين على ذلك بأن جعلت من الاستقلال التكنولوجي هدفها الأول في خطتها الخمسية الحالية 2021/2025 بتخصيص نحو 1.4 تريليون دولار.
وتتضمن الخطة الصينية تحقيق الاعتماد على الذات في مجال التكنولوجيا كهدف استراتيجي قومي، وكذا تحقيق السبق التكنولوجي في العديد من القطاعات، مثل الذكاء الاصطناعي واستخدام الهيدروجين كوقود والسيارات الكهربائية، وغيرها من التكنولوجيات.
ويأتي في مركز الاهتمام الصيني تحقيق الاستقلال في إنتاج أشباه الموصلات، حتى تُحرر شركاتها ومستقبلها الصناعي من الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية.
وتخشى أمريكا من أن خطة بهذا الإنفاق الضخم -حجم الإنفاق الصيني السنوي على التكنولوجيا نحو 280 مليار دولار- ربما تساعد الصين على كسب السباق التكنولوجي، ولهذا تم مؤخرا بحث قانون يسمح برد أمريكي على هذا التحدي الصيني.
وطبقا لمعلومات قدمتها وكالة بلومبيرج للأنباء، فقد وافق مجلس الشيوخ الأمريكي بالأغلبية على مشروع قانون مرتفع الكُلفة، يقضي باستثمار نحو 250 مليار دولار في دعم الصناعة والتكنولوجيا الأمريكية لمواجهة التحدي الاقتصادي والاستراتيجي الصيني.
وجاء التصويت على القانون بموافقة 68 ومعارضة 32 من أعضاء "الشيوخ"، وكان موضع اتفاق نادر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ودليلا واضحاً على اهتمام الحزبين بأن الولايات المتحدة تُخاطر بأن تتخلّف وراء أكبر منافس عالمي لها.
وقال رئيس الأغلبية الديمقراطية بـ"الشيوخ"، تشاك شومر، قبل عملية التصويت: "بعد أن يُقال ويُفعل كل شيء، سوف يُسجَّل مشروع القانون على أنه واحد من أكثر الأشياء أهمية لهذا المجلس خلال فترة زمنية طويلة جدا، فتكنولوجيات المستقبل سوف تحدد القائد الاقتصادي العالمي، مع آثار عميقة على السياسة الخارجية والأمن القومي أيضاً".
يخصِّص مشروع القانون الأمريكي 190 مليار دولار، معظمها يتوجه لزيادة البحث والتطوير في الجامعات والمؤسسات الأخرى.
يتضمن أيضاً 52 مليار دولار كنفقات طوارئ لمساعدة صناعة رقائق أشباه الموصلات المحلية على توسيع الإنتاج، وهو بند اكتسب أهمية مُلحة مع النقص العالمي في رقائق أشباه الموصلات، التي عطّلت مصانع السيارات الأمريكية وأثارت الاضطراب في عملية إنتاج الإلكترونيات الاستهلاكية.
وتذكر "بلومبيرج" أنه رغم التأييد العريض في الكونجرس وموافقة إدارة الرئيس "بايدن"، فإن مصير مشروع القانون في مجلس النواب غير مؤكد. فقادة مجلس النواب لم يوضحوا علناً كيف سيتصرفون إزاء مشروع القانون، كما لم يحددوا نهجاً للعمل يذهب إلى أبعد من اهتمام لجنة العلوم بالمجلس بخطتها الخاصة في تجديد وإصلاح مؤسسة العلوم الوطنية.
ولكن "تشاك شومر" قال إنه تحدث مع رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، ورئيس لجنة العلوم، إدي بيرنس جونسون، حول المنهج الذي تم اتخاذه في مجلس النواب، وأضاف أن مشروع قانون مجلس الشيوخ يعد الآن قريباً مما يعمل عليه مجلس النواب، وأوضح أن المشروع "على أجندة الرئيس بايدن، وأنا متأكد تماماً من أنه منتج جيد حقاً".
كان "شومر" نفسه، مع السيناتور الجمهوري تود يونج، الراعيين لمشروع القانون، مركزين على تصعيد الدعم الفيدرالي للبحث في الابتكارات التكنولوجية والصناعة.
وفي أقل من شهر، ناقش المشرّعون الأمريكيون عددا كبيرا من التعديلات على مشروع القانون، حيث سعى كثيرون إلى إضافة إجراءات تركز على الصين.
وبدورهم طالب المشرِّعون الصينيون الكونجرس "التوقف فوراً" عن التقدم في مشروع القانون، وعلقت وكالة "شينخوا" الصينية للأنباء، نقلا عن بيان للجنة المعنية بالشؤون الخارجية في مجلس نواب الشعب الصيني، بأن مشروع القانون الأمريكي "يلطّخ سمعة التنمية الصينية والسياسات الصينية الداخلية والخارجية"، كما أنه يعد "تدخلا في شؤون الصين تحت راية الابتكار والمنافسة".
وقد عنون "شومر" و"يونج" مشروع قانونهما بـ"قانون الحدود اللا نهائية"، مطلقين عليه نفس العنوان، الذي أُطلق على تقرير صادر عام 1945 أدى إلى إنشاء مؤسسة العلوم الوطنية، وقد تم جمع المشروع مع مشروعات بلجان الشؤون الخارجية والبنوك والأمن الوطني والشؤون الحكومية، إلى جانب مشروعات أخرى.
ويعكس المشروع دعوة الرئيس الأمريكي إلى معالجة ما سماه "الانحدار طويل المدى في الإنفاق الحكومي على البحث والتطوير"، وقد بلغت نسبة هذا الإنفاق في العام الماضي نحو 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، طبقاً لمؤسسة العلوم الوطنية، وهي نسبة محسَّنة إلى حد ما مقارنة بالضربة التي وُجهت للناتج المحلي الإجمالي بتأثير جائحة كورونا.
وكان الإنفاق على البحث والتطوير قد بلغ ذروته عام 1964 بتسجيله نسبة 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبعها بعد ذلك عقود من الاختراقات التكنولوجية، تتضمن نزول إنسان على سطح القمر، وتحديد خريطة الجينوم البشري، وتطوير الإنترنت.
وقد أضيف لمشروع القانون الجديد مبادرة مستقلة، يتم بموجبها تقديم 52 مليار دولار كحوافز ومنح لبرامج تعمل على دعم التصنيع المحلي لرقائق أشباه الموصلات، وهي مبادرة تبنّاها كل من السيناتور جون كورنين وتوم كوتون، عن الحزب الجمهوري، ومارك كيلي ومارك وارنر، عن الحزب الديمقراطي.
وقد هلل لهذه الخطوة العاملون في صناعة الرقائق، بعد شهور من الشكوى من قبل رجال الصناعة بأن النقص في الرقائق يعيق تسليم كل شيء، من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية إلى الشاحنات الصغيرة.
وقال جون نيوفر، رئيس اتحاد صناعة الرقائق: "رقائق أشباه الموصلات تشكل الجهاز العصبي المركزي للاقتصاد الأمريكي، والأمن القومي والبنية الأساسية"، وأضاف: "نتطلع إلى العمل مع قادتنا في الإدارة والكونجرس على اعتماد الاستثمارات الفيدرالية في تكنولوجيا الرقائق بسرعة لضمان أن المزيد من الرقائق، التي تحتاج إليها بلادنا، تم البحث حولها وتصميمها وتصنيعها على الأراضي الأمريكية".
وهناك تعديل آخر على مشروع القانون من السيناتور الجمهوري "بن ساسي" يسمح بنحو 17.5 مليار دولار إضافية لهيئة برامج البحث الدفاعي المتقدم على مدى خمس سنوات.
لم يخلُ الأمر من معارضة لمشروع القانون داخل مجلس الشيوخ لأنه "يحاكي أسلوب الصين في التخطيط لسياسة صناعية وتكنولوجية".
فقد عارض بعض الأعضاء الجمهوريين فكرة أن الحكومة توجّه سياسة البحث والتصنيع.
بينما في جبهة المؤيدين، قال زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، السيناتور ميتش ماكونيل، الذي انتقد نُسخاً سابقة من مشروع القانون لأنها "غير مناسبة للساعة الحاسمة وضعيفة في جانبها المتعلق بالدفاع"، إن مشروع القانون ساحة نادرة من الحل الوسط بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولكنه يجب ألا يكون "الكلمة النهائية" في تنافس الولايات المتحدة مع الصين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة