يعيش العالم العربي منذ أكثر من عقدين ما يمكن تسميته بـ"عصر المليشيات".
هذه المليشيات، وإن اختلفت في الشعارات التي تحملها والمذاهب التي تنتمي إليها، فإن استغلالها سياسياً لخدمة أجندة بعض الدول يبقى ثابتاً، وهو جزء من موجة الإرهاب، التي وصلت في تجلياتها الأخيرة، إلى استراتيجية استقرار الفوضى.
ففي العراق، هناك مليشيات الحشد الشعبي، وهي فصائل مسلّحة موالية للحرس الثوري الإيراني، تشكّلت لمقاومة تنظيم "داعش" الإرهابي، لكنها ما لبثت أن صارت جيشاً موازياً للجيش العراقي الرسمي، سواء في تنظيماتها الأمنية أو مواردها المالية، إذ تفاوتت التوقعات بتعداد أفرادها، ومنها ما يؤكد أنهم أكثر من مليون شخص، بينهم 200 ألف عنصر "فضائي"، أي لا وجود لهم عملياً وإنما مجرد أسماء وهمية على الورق يتسلم رواتبهم قادة هذه الفصائل، بحسب اتهامات فساد.
ومنذ أن شكّل رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، حكومته العام الماضي، ولديه النية الصادقة والعزيمة القوية أن تكون بيدها السلطة الوحيدة في البلد، وقد أجرى في الفترة القريبة الماضية تغييرات مهمة في القيادات العسكرية والأمنية لترسيخ الدولة العراقية، وضمان إجراء انتخابات نزيهة في أكتوبر المقبل، وتأمين المنافذ الحدودية، التي كانت تسيطر عليها المليشيات وتلتهم معظم مواردها المالية.
وفي خطوة شجاعة ونادرة، أصدر مجلس القضاء الأعلى بالعراق، الشهر الماضي، أوامر تقضي بإيقاف القيادي في الحشد الشعبي، قاسم مصلح، وحاول "الحشد" ممارسة ضغوط على رئيس الوزراء العراقي، دون جدوى، في ظل نجاح القوات الحكومية، بما فيها القوات الخاصة وقوات مكافحة الإرهاب، في منع "الحشد" من السيطرة على "المنطقة الخضراء" ببغداد.
وانتهى أمر "مصلح" بصدور أمر قضائي بإطلاق سراحه، وبعدها ظهر في بغداد إسماعيل قاآني، قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، حيث التقى رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء العراقي.
يوحي ذلك بأن إيران استخدمت نفوذها لإطلاق سراح "مصلح"، ولكن ذلك لا يعني أن رئيس الوزراء العراقي خسر معركة استعادة الدولة، فالواضح أن هناك تطوراً إيجابياً حصل على صعيد أداء المؤسسة العسكرية والأمنية في الأشهر القليلة الماضية، وأيضاً وجود رأي عام عراقي يتوجّس من إيران وفصائلها المسلحة، فالمواجهة لا تزال مؤجلة بين الدولة العراقية والمليشيات.
أيام مهمة وحاسمة يمرّ بها العراق، الذي يأمل مواطنوه أن تكون انتخابات أكتوبر القادم مرحلة جديدة للحياة السياسية في البلاد، بحيث يتم تحجيم المليشيات الطائفية وإفساح المجال أمام قوى وطنية جديدة تقود العراق نحو مرحلة من ترسيخ مفهوم الدولة والإصلاح والتغيير.
بالتأكيد لن تكون المهمة سهلة، فإيران ستقاتل بكل ما بقي لديها من إمكانات كي تبقى في العراق، لكن يبدو واضحاً أن النفوذ الإيراني في العراق يتراجع، ولو ببطء، ويبدو أيضاً أن معركة استرداد الدولة العراقية والسيطرة على المليشيات وتقليص دورها آتية لا محالة.
إنها معركة مستقبل دولة العراق الوطنية، التي تحافظ على سيادتها ووحدتها، والتي لا تستطيع التعايش مع المليشيات، وهي معركة كلّ العراقيين المخلصين بامتياز.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة