تكشف متابعة الموقف الأمريكي الراهن تجاه تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة عن اهتمام لافت بما يجري في "تل أبيب".
فقد نقلت الإدارة الأمريكية رسائل مباشرة لرئيس الوزراء الجديد، نفتالي بينيت، مبكراً بـ"الدعم والعمل من أجل ضمان أمن إسرائيل، والحفاظ على العلاقات السياسية والاستراتيجية ذات الطابع الخاص".
وذلك مع احتمالات تدهور الموقف مجدداً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، سواء في غزة أو القدس الغربية، حيث لا تزال مساحة التوتر قائمة، وستحتاج إلى جهد إقليمي ودولي لفرض حالة التهدئة بدلا من الوضع الراهن القابل للاشتعال في أي وقت، وهو ما ظهر في مسيرة الأعلام مؤخرا، وتدركه الإدارة الأمريكية جيداً وتتحسب لتبعاته على أمن إسرائيل. وبصرف النظر عما يجري، تسعى الإدارة الأمريكية لفرض خيار التهدئة أولا في غزة مع التجاوب في تقديم بعض التسهيلات لسكانها والانتباه إلى مخطط استئناف التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي رسميا، حيث تضع الإدارة الأمريكية موضوع أمن إسرائيل أولوية استراتيجية فوق أي اعتبار آخر.
وهو ما نُقل للأطراف المعنية، رغم المواقف المتباينة الراهنة بين تل أبيب وواشنطن، ليس في الملف الإيراني فحسب، وإنما أيضا فيما سيُطرح لاحقا على المستوى الأمريكي، والمتعلق باستئناف الاتصالات مع الفلسطينيين، ما يشير إلى أن التفاوض وفقاً للنهج الأمريكي المطروح لن يبدأ قبل منتصف الولاية الأولى للرئيس الأمريكي جو بايدن، أي لن يتم التعجيل بالدخول في جولات تفاوضية حقيقية لحين الاستقرار على الخيارات المطروحة والتركيز على القوى الرئيسة في الإقليم للعب دور في التوصل لنقطة توازن.
وترى إدارة "بايدن" أن إسرائيل قد تندفع لتبنّي خيارات صدامية في الملفين الإيراني والفلسطيني، وهو ما يتطلب التشاور والتعامل وتقليل مساحات الخلاف السياسي والاستراتيجي، وتقديم بعض الحوافز للجانب الفلسطيني، وهو ما أعلنته أمريكا مؤخراً، سواء بإعادة فتح القنصلية الأمريكية في شرق القدس، أو فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والاستمرار في ضخ المساعدات إلى الوكالة الدولية للإغاثة بقطاع غزة.
كما ستعيد أمريكا ضخ المساعدات إلى السلطة الفلسطينية تخوفاً من أي هزات حقيقية قد تواجهها مع الوضع المتردي لمؤسسات السلطة في الداخل.
كذلك ينطبق الأمر على الجانب الإسرائيلي في دعم المتطلبات الأمنية والاستراتيجية، بتمويل المزيد من برامج الدفاع الصاروخي "حيتس" و"آرو"، إضافة لنظام الليزر المتعدد، وتوفير اعتمادات إضافية أمريكية للحكومة الإسرائيلية لتطوير منظومة "القبة الحديدية"، فضلا عن بحث زيادة المساعدات الأمريكية الممنوحة لإسرائيل، والتي تصل إلى 39 مليار دولار على 10 سنوات.
برغم كل هذا، هناك تصور مقابل مفاده أن الإدارة الأمريكية لم تتحرك إلا بعد المواجهات الإسرائيلية-الفلسطينية الأخيرة، وأن الأهم ليس هذه الإجراءات، وإنما إطلاق مقاربة حقيقية متماسكة قادرة على تغيير الواقع الراهن، وعدم الاكتفاء بالسلام الاقتصادي المطروح، بل التركيز على السلام السياسي والاستراتيجي وتحقيق الأمن للطرفين والعمل على آليات محددة وفق أهداف سياسية واستراتيجية مرحلية ودائمة.
ويدعو الجانب الفلسطيني لجهد جماعي دولي، ليس فقط عبر الوسيط الأمريكي، وإنما عبر الرباعية الدولية، والتي تُبدي تجاهها الإدارة الأمريكية تحفظاتٍ، خاصة أن هناك ترقباً فرنسيا وروسيا وصينيا لاحتمالات إخفاق أمريكا، وقد سبق أن طرحت هذه الأطراف رغبتها في لعب دور حقيقي في مسار استئناف الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية.
هذا الأمر يؤكد أن الجانب الأمريكي لا يزال يرى أن الرباعية الدولية قد تؤدي إلى تبعات مكلفة للسياسة الأمريكية، ويتطلب الحذر من أي خطوة حقيقية في هذا التوقيت، والعمل أولا على المسارات كافة، والانتقال -حال نجاح الخطوة- لمسارات أخرى مهمة قد يكون لها تأثير حقيقي في الفترة المقبلة.
ولعلنا نتذكر أن الإدارة الأمريكية بحثت عقد مؤتمر دولي للسلام، وخلصت إلى أن هذا المقترح "غير واقعي"، وأن التفاوض وفق لقاء دولي على شاكلة مؤتمر باريس أو مدريد، أو على غرار ما اقترحته موسكو، "غير مُجدٍ" وفي حاجة إلى ترتيبات وخطوات حقيقية، ولهذا لم يتحمس فريق المسؤولين الأمريكيين لهذا المقترح، لأنه سيؤدي إلى مشاركة أطراف إقليمية ودولية كروسيا والصين وفرنسا، وهي أطراف لا تفضِّل الإدارة الأمريكية التحاقها بإدارة هذا الملف، الذي تعتبره شأناً أمريكيا.
نظريًّا قد يكون أمام أمريكا الجمع بين أكثر من خيار في التوقيت نفسه، من خلال العمل مع الأطراف الإقليمية مثل الأردن ومصر أولا، قبل الانتقال إلى المسار الثاني الدافع نحو أداء دور توازني ومهم في الواجهة السياسية، وهو ما سيرتب خيارات إقليمية فلسطينية بجوار ما يُطرح أمريكيا.
ويمكن ضم أكثر من مسار للتحرك مع عدم التركيز على خيار واحد، وهو ما قد يدفع واشنطن لدعم إجراء اتصال ولقاءات استهلالية حقيقية بين الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية بمشاركة مصرية وأردنية وحضور محدد من الجانب الأمريكي، وذلك لعدم إلقاء الأمور كلها في منظومة واحدة، مع الانتقال إلى مرحلة أخرى -حال التحرك من وإلى كل مسار أو اتجاه- وفقا لما يتماشى معه الطرفان في الفترة المقبلة.
هذا الأمر يؤكد عدم الانخراط الأمريكي المباشر في سياق استراتيجي وسياسي، وسيلقي بعبء حقيقي على الطرفين المصري والأردني بالأساس، مع التوقع بمحاولة الإدارة الأمريكية دفع بعض الأطراف العربية الأخرى لدعم الأردن ومصر، وهو ما قد لا يتحقق في ظل موقف السلطة الفلسطينية الرافض لدخول أطراف بعينها، وبالتأكيد هذا سيوضع في الاعتبار.
من غير المرجح إذاً أن تحاول الإدارة الأمريكية الانتقال من مرحلة التكشُّف والتتبع الجارية وفرض حالة التهدئة، إلى مرحلة أخرى تركز فيها على انخراط حقيقي وفاعل ومباشر، خاصة أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستظل تراقب ما يجري، مع العمل على خيارات متسعة والرهان على السلوك الأمريكي الداعم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة