يدخل الفلسطينيون مرحلة جديدة من التعامل مع الإدارة الأمريكية، خاصة أن التوصل إلى هدنة دائمة في قطاع غزة لن يكون الحلَ النهائيَ الحاسم.
فبدون حدوث مقاربة حقيقية من التعامل الفلسطيني الأمريكي والعودة إلى استئناف الاتصالات السياسية مع إسرائيل، ستكون كل الخيارات قائمة، وكل السيناريوهات واردة، وذلك لجملة من الاعتبارات.
مبدئيا، لا يزال الانقسام الفلسطيني واقعًا بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث تتعامل الإدارة الأمريكية مع السلطة الفلسطينية بالأساس، وقد أجرت مؤخرًا سلسلة اتصالاتٍ على مستوى الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، وكان الهدف هو التوصل إلى نقطة توازن يبدأ منها الجانبان، الفلسطيني والإسرائيلي، خطوة استئناف الاتصالات على أرضية جديدة، وبدعم من الأردن ومصر، فيما اكتفت واشنطن بنقل رسائلها غير المباشرة إلى "حماس" عبر الوسيط المصري.
يشير المشهد الراهن إلى أن الجانب الفلسطيني في "رام الله" ما زال الطرف المعنيَّ رسميًّا ودوليًّا، وما لم يطوِّر مواقفه ويتخذ إجراءات لمِّ الشمل ويقدم مبادرات حقيقية لـ"حماس"، فإن الأمور ستمضي في غير سياقها، وهو الأمر الذي قد تستثمره الحكومة الإسرائيلية بتأكيدها عدم وجود شريك أو مفاوِض، ومِن ثمَّ فإن أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيناريوهات عدَّة لتغيير المشهد الراهن.
السيناريو الأول: تشكيل حكومة تكنوقراط من "فتح" و"حماس"، بناء على ما تم الاتفاق عليه في الأشهر الماضية، ومن المتوقع أن يناقَش هذا الأمر في دوائر "حماس" حال استمرار السلطة الفلسطينية بالضغط في هذا الاتجاه، خاصة أن هذا السيناريو سيطرح دورًا قياديا لحركة "حماس" ويرفع عنها الاتهامات الخارجية بأنها "ما تزال مصنّفة إرهابية"، وإنما ستكون حركة سياسية مشاركة في الحكم، وقد يتم ذلك تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية.
السيناريو الثاني: تشكيل حكومة تكنوقراط من "فتح" و"حماس" وشخصيات مستقلة، حيث ترى "فتح" أن مثل هذا الاتفاق سيؤسِّس لحكومة وحدة وطنية تكنوقراطية، ولكن هذا السيناريو يبدو مثاليًّا وسيواجَه بإشكاليات حقيقية في تنفيذه على أرض الواقع.
أما السيناريو الثالث أمام الرئيس "عباس"، فهو تشكيل حكومة مهنية بالاتفاق بين "حماس" وقائمة "الحرية"، وهي تحالف القياديين في حركة "فتح"، ناصر القدوة ومروان البرغوثي، إضافة إلى قوائم صغيرة من المستقلين.
هذا السيناريو يضع لـ"البرغوثي" دورًا مركزيًّا -حال الإفراج عنه في صفقة تبادل الأسرى- وهو ما يعارضه الرئيس "عباس" ولا يتسق داخل مراكز القوى في "فتح".
السيناريو الرابع يتضمن تشكيل حكومة تكنوقراط بالاتفاق بين "حماس" وقائمة "تيار دحلان" وقائمة "الحرية" برئاسة "القدوة" و"البرغوثي".
الخامس: تشكيل حكومة مهنية بالاتفاق بين "حماس" وقائمة "الإصلاح"، وربما بعض القوائم المستقلة، سواء في غزة أو الضفة.
السادس: فشل أيٍّ من الكتل بتشكيل حكومة، وبالتالي العودة مجددًا إلى انتخابات مبكرة، وهذا السيناريو مطروحٌ حال استئناف الضغوطات الدولية على إسرائيل لقبول إجراء الانتخابات بعد تثبيت الهدنة والدخول في تفاصيل أكبر تتعلق بعودة الاتصالات السياسية مع الجانب الإسرائيلي بوساطة أردنية ومصرية.
السابع: إجراء انتخابات رئاسية وفق النموذج الليبرالي، مع إجراء تعديل على قانون الانتخابات بشأن الاقتراع الرئاسي، الذي ينصُّ على انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب الفلسطيني.
في المقابل، فإن حركة "حماس" مطالبة هي الأخرى بمواقف حقيقية، وعدم ترقب ما سيجري من مشروع إعمار القطاع وضخِّ المساعدات، وإعادة تقديم نفسها للواجهة الفلسطينية بعد أن كانت شعبية الحركة قد انخفضت بصورة كبيرة، رغم تقييمات أجهزة الأمن الفلسطينية بأنها "كانت ستحقق تقدمًا حال إجراء انتخابات"، وبالتالي سيتم تأكيد أن "حماس" هي أحد أهم الأطراف الفلسطينية، بل ومركز صنع القرار الاستراتيجي أمام إسرائيل.
في هذه الأجواء، يمكن إذن القول بأن الإدارة الأمريكية ستظل تدرس الموقف الراهن، فلسطينيا وإسرائيليا، مع استمرار دعمها لإسرائيل أمنيا واستراتيجيا في مواجهة ما يجري، باعتبار "إسرائيل" قضية وشأنًا داخليًّا للولايات المتحدة ولا يمكن التنازع حولها رغم ما جرى في الكونجرس بشأن استمرار تقديم الدعم للجانب الإسرائيلي، ما يؤكد أن إسرائيل ستمضي وفقا لهذا الأمر، وبناء على سياسة أمريكية مصلحية، إذ ستعمل واشنطن على زيادة المساعدات لتمويل أنظمة الدفاع الإسرائيلية، التي تعرَّضت لانتقادات في الفترة الأخيرة بعد المواجهات العسكرية في قطاع غزة وفشل "القبة الحديدية" في التعامل مع الصواريخ الفلسطينية، التي بدورها يمكن أن تتطوَّر وتتحسَّن مساراتها لاحقا، وهو ما يزعج إسرائيل.
في كل الأحوال، ليس متوقعًا أن تُقدِم الإدارة الأمريكية على استراتيجية جديدة تتبنَّى الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية، وهو ما يرغب فيه الفلسطينيون ويسعى إليه الرئيس محمود عباس، خاصة أن السلطة الفلسطينية خرجت من أزمة المواجهات الراهنة بحالة انكسار وإخفاق سياسي، بعد الرهان على بدائل أخرى، في ظل تنامي دور "حماس" وتنظيمات المقاومة، ما سيجعل الأخيرة في موقف الأقوى والأبرز على الساحة السياسية.
بالتالي، فإن الإدارة الأمريكية ستجد نفسها أمام تطورات سياسية واستراتيجية على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومن المهم التعامل مع مستجداتها، وليس اتباع سياسة رد الفعل، في ظل غياب المصداقية الحقيقية، والتشكك الفلسطيني في قيام واشنطن بوساطة فاعلة في الوقت الراهن، ما يتطلب إعادة تدوير الحسابات والسياسات في أكثر من اتجاه، كما أنه يدفع بتبني خيارات متعددة في الفترة المقبلة.
ومن المتوقع استمرار مراوغات تل أبيب، رغم الدعم الأمريكي، لوجود إشكالية حقيقية متعلقة بالسلوك الإسرائيلي القائم على العمل المصلحي في اتجاه واحد، ما سيعرقل أيَّ مخطط أمريكي على مسار تفاوضي واقعي، وقد يؤدي إلى صدامات، استكمالا لما يدور في الملف الإيراني من تفاصيل، في ظل اتهامات إسرائيلية للجانب الأمريكي بأنه "لا يراعي المتطلبات الأمنية لإسرائيل"، رغم الحوار الأمني المستمر منذ وصول الرئيس "بايدن" إلى "البيت الأبيض".
سيبقى التخوف الأمريكي مرتبطًا بضعف السلطة الفلسطينية في وضعها الراهن، وبأنها ليست مَن تُقرر، وبأن القرار الاستراتيجي الحالي في يد "حماس" و"الجهاد"، وليس "فتح" أو أي طرف آخر، ما يؤكد عدم رغبة واشنطن في إحداث نوع من الاختراق للمشهد المرشح للاستمرار، على الأقل في المدى المتوسط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة