ما هي أهم قضية تشغل الداخل الأمريكي؟ غالبا ما سيكون جواب الأغلبية من القراء أنها قضية جائحة كورونا.
تلك التي أوقعت أكثر من نصف مليون ضحية، وعدة عشرات من الملايين مصابين، وكبدت البلاد والعباد عدة تريليونات من الدولارات خسائر اقتصادية، ما حدا ببعض المراقبين الاقتصاديين للقول إنها أعادت عجلة الاقتصاد الأمريكي إلى ما قبل زمن الحرب العالمية الثانية.
والثابت أن الجواب المتقدم صحيح، لكن يبدو أن هناك ما هو أكثر خطورة، ويتقدم على طرح الفيروس الشائه: ماذا عن ذلك؟
المؤكد أن فيروس كورونا على كارثيته، يمكن أن يتم التغلب عليه من خلال اللقاحات، وها هي الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل قد نجحت بشكل كبير في تخفيض عدد المصابين به، والوفيات من جرائه.
لكن الكارثة الأكبر تتمثل في أن الجائحة خلفت وراءها هولا أشد رعبا، يتبدى في الكراهية التي تنتشر في الداخل الأمريكي، وقد كانت قائمة بالفعل، وجاءت بعض الأحداث لتظهرها إلى العلن، الأمر الذي دعا الرئيس بايدن لأن تكون له وقفة مهمة الأيام الماضية للتصدي والتحدي، وقبل أن يستفحل الضرر.
لتحديد المشهد بدقة، نذكر بأن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد استخدم أكثر من مرة تعبير "الفيروس الصيني" في يقين منه مفاده أن بلاده تعرضت إلى هجمة بشكل أو آخر من الصين ولو لم تكن بشكل مباشر، لكن المحصلة النهائية واحدة، وهي الضرر الكبير الذي لحق بالأمريكيين بشرا وحجرا.
في هذه الأجواء المشحونة بالقلق والتوتر والترقب، بدا وكأن حالة كراهية غير طبيعية قد طفت على السطح ضد الآسيويين، وتميز هولاء من حيث الشكل مسألة يسيرة في دولة الواسب والرجالات بل والنساء الأنجلوساكسون تاريخيا... لماذا؟
باختصار غير مخل، هناك من يوقن أن الآسيويين هم السبب في نشر الفيروس الخطير في مختلف أرجاء البلاد، ولهذا أضحى كل من يحمل بشرة صفراء محل بغض أو كراهية من جماعات اليمين العنصري الأمريكي، وهي مجموعات تتنامى وتزدهر من أسف شديد بقوة يوما تلو الآخر، وكلما اشتدت الأزمات الداخلية لا سيما الاقتصادية، فإن هناك من بينها من يلقي اللوم على الجاليات الآسيوية تحديدا، ويعتبر أنها السبب الرئيس في أزمات البلاد، حيث تقوم على نهب خيرات البلاد واقتصادها، والعمل كطابور خامس لصالح دول خارجية.
في هذا السياق، شهدت ولايات مختلفة جرائم عنصرية أدت إلى قتل صريح علني ومقصود لسيدات آسيويات. ويمكن للظاهرة أن تمتد في قادم الأيام لا سيما إذا طال البقاء لكورونا أشهرا أو عاما آخر.
هل يعيد التاريخ نفسه من جديد؟
المقصود بالتاريخ هنا هو الأجواء التي سادت الداخل الأمريكي بعد القصف الياباني لميناء بيرل هاربر خلال الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى اعتبار اليابانيين عن بكرة أبيهم مجموعة جواسيس على الأراضي الأمريكية. ولهذا تم تجميعهم في معسكرات معزولة وتعريضهم لإهانة ومهانة كبيرتين وانتقاص واضح وفاضح لفكرة المواطنة خاصتهم.
لم يتوقف الرئيس بايدن طويلا أمام هذا المشهد؛ فقد وقع في الأيام القليلة الماضية على قانون جرائم الكراهية المتعلقة بكوفيد -19 الذي أقره الكونجرس بعد أن حصل على دعم كبير من كلا الحزبين في مجلسي الشيوخ والنواب، حيث حصل القانون على 94 صوتا مؤيدا في مقابل صوت واحد معارض في مجلس الشيوخ، وهذا أمر استثنائي في ظل المناخ الأمريكي المنقسم والمتشظي الأخير، ذاك الذي عمقته الانتخابات الرئاسية الأخيرة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
لماذا كان التصرف القانوني التشريعي الأمريكي سريعا على هذا النحو؟ ولماذا ظهر توافق نادر بين الجمهوريين والديمقراطيين؟
يمكن القطع بأن المخاوف المحدقة بالعالم برمته من تصاعد الحركات اليمينية وارتفاع رايات أصحاب التوجهات القومية هي السبب الرئيس وراء الإنجاز السريع؛ فقد خشي العقلاء من الأمريكيين ردات الفعل الهستيرية التي غذتها شريحة قليلة المعرفة من الأمريكيين، وساندتها من جهة ثانية دعوات عدائية أطلقت من قبل سياسيين شعبويين، الأمر الذي ذكر الأمريكيين بموجات العداء الصارخ التي تعرض لها العرب والمسلمون في الداخل الأمريكي منذ عقدين تقريبا، أي وقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
هل توقفت موجات الكراهية عند حدود الآسيويين أم أن هناك مخاوف جدية أخرى لصحوة دعوات كراهية أخرى عرفتها أوروبا من قبل ولم تعهدها أمريكا فيما مضى؟
في المؤتمر الصحفي الذي عقده بايدن في البيت الأبيض بصحبة رئيس كوريا الجنوبية، مون جاي إن، تحدث بايدن منددا بموجات الهجمات المعادية للسامية التي استهدفت الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم منذ بدء الجولة الأخيرة من القتال بين إسرائيل وحماس في 10 مايو/ آيار المنصرم.
كتب بايدن على حسابه الرسمي عبر تويتر: "الهجمات الأخيرة على المجتمع اليهودي خسيسة ويجب أن تتوقف". وأضاف: إنني أدين هذا السلوك البغيض داخل البلاد وخارجها، والأمر متروك لنا جميعا لعدم إعطاء الكراهية ملاذا آمنا".
والثابت أن تصريحات الرئيس بايدن جاءت بعد ثلاثة أيام من مطالبة عدة مجموعات يهودية أمريكية بارزة، من ضمنها رابطة مكافحة التشهير، واللجنة اليهودية الأمريكية، والاتحاد اليهودي لأمريكا الشمالية، والاتحاد الأرثوذكسي وهداسا، البيت الأبيض باتخاذ خطوات لكبح جماح هذا الفيض من الهجمات التي شهدتها مدن في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
ولعل ما يخيف الأمريكيين عن حق هو أن الهجمات المعادية للسامية التي رصدت الأسابيع الماضية، لم يذكر فيها اسم أي عربي أو مسلم من بين الذين قاموا بشنها، بل كانت تعزى إلى رجال بيض أمريكيين يرفعون شعارات مثل: فلسطين حرة، الأمر الذي يعكس مخاوف من عودة معاداة السامية مرة جديدة لتمضي عبر طرقات الولايات المتحدة، مع الأخذ في عين الاعتبار كذلك اشتداد عودها من جديد أوروبا، الأمر الذي دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأن يوجه قبل بضعة أعوام دعوة ليهود أوروبا للهجرة إلى داخل روسيا حيث يمكن أن يلقوا نوعا من الأمن والأمان، أفضل من "تهديدات العنصريين الأوربيين".
على أن علامة الاستفهام الواجب طرحها: "هل معاداة السامية في الداخل الأمريكي بدأت الأيام الماضية ومع صواريخ غزة والغارات الإسرائيلية؟
بالقطع لا؛ فقد رأينا بعض هجمات على كنس يهودية في الداخل الأمريكي خلال الأعوام الماضية، عطفا على نبرات عالية ضد يهود أمريكا من جماعات مغرقة في تطرفها اليميني، تحمل كراهية تاريخية لليهود أكثر من أي جماعة عرقية أخرى.
تاريخيا، تتفشى الكراهية في أوقات الأزمات، ويبدو أنها تمثل نوعا من أنواع الكبت المرضي، الذي يجد له إسقاطا تجاه الأقليات العرقية والدينية، وهذا ما تسبب في الهجمات ضد الآسيويين واليهود في الداخل الأمريكي.
أحسن الرئيس بايدن في التصرف سريعا ليفتح الباب لقوة القانون، لكن الأهم أن يسود صوت التسامح في المجتمع الأمريكي وكل مجتمع، وهذا لا يمكن فرضه بالقوة الجبرية، وإنما بفتح أبواب الحوار والجوار، ومحاولة تبديد ملامح ومعالم الكراهية من القلوب والعقول.
الخلاصة.. التسامح والتصالح هما الحل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة