تتلخص المشكلة القائمة في العراق في شكل صراع شرس مع مليشيات تشكل دولة داخل الدولة.
لها أجندة واضحة تتبع دولة إقليمية لها مشروع يهدف إلى الهيمنة والتوسع في المنطقة، مليشيات تتغلغل في مؤسسات الدولة وأجهزتها وتحاول السيطرة عليها ومصادرة قرارها لصالح أجندتها، التي تتجاوز جغرافية الدولة من جهة، وبين الدولة الحقيقية، التي تريد أن تحكم بالدستور وتدير البلاد من خلال الرئاسات الثلاثة، رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان، فضلا عن المؤسسات الرسمية من جيش وقضاء وقوات أمن. من جهة أخرى .
هذه هي حقيقة فصول المعركة المتجددة بين مَن يريد الدولة بكل ما تعنيه الكلمة من مفاهيم ودلالات دستورية وقانونية وسياسية، وبين ذاك الذي يريد "اللادولة"، بما تعنيه من فوضى وطائفية وصراعات مفتوحة تدمر المجتمع والهوية.
وفي فصول المعركة الجارية بين الدولة والمليشيات في العراق، بدت الدولة منذ تسلُّم مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة كأنها تسير في حقل ألغام، لا بسبب صعود المليشيات على وقع الحرب ضد تنظيم "داعش"، وتزايد نفوذها، خاصة بعد إلحاق "الحشد الشعبي" بمكتب رئيس الوزراء مباشرة، وإنما بسبب إحساس هذه المليشيات بالقوة، التي تستمدها من إيران، وقدرة الأخيرة على تجديد خريطة المليشيات عبر تفريخ جماعات جديدة باستمرار، إلى درجة أننا بتنا كل فترة أمام مجموعة أو مجموعات تأخذ طابع السرية والغموض، قادرة على إثارة الفوضى والخوف والقتل، ولعل آخر هذه المجموعات كانت الجماعة المسلحة، التي أطلقت على نفسها (ربع الله)، والجميع يتذكر الاستعراض العسكري الذي نظمته هذه الجماعة في العاصمة العراقية قبل نحو شهر، وما قامت به من أعمال حرق وتدمير طالت قنوات تليفزيونية ومقار حزبية ومصالح اقتصادية.
وقد تكرر الأمر نفسه، ولو بطريقة مغايرة، عندما اعتقلت قوات الأمن العراقية قاسم مصلح، قائد قوات الحشد في غرب الأنبار، بتهم تراوحت بين أعمال قتل ناشطين والوقوف وراء هجوم صاروخي على مقر السفارة الأمريكية في بغداد، إذ استعرضت المليشيات عضلاتها العسكرية في قلب المنطقة الخضراء من بغداد، وقطعت مداخلها، وحاصرت مقر رئيس الوزراء العراقي، وهددت ما لم يتم الإفراج عن "مصلح"، قبل أن تتدخل قوات الجيش العراقي وتفلح الجهود في تجنب مواجهة دموية، دون أن يعني ذلك انتهاء المواجهة المحتملة بين الجيش العراقي والمليشيات، خاصة في ظل إصرار الأخيرة على التصرف خارج الدستور والقانون والقرارات الرسمية.
في كل محطة تحاول المليشيات قلب الطاولة على الدولة، تجد أجندة سياسية، هي في الحقيقة أجندة إيرانية بامتياز، فكلما حاول العراق الاقتراب من محيطه العربي تتحرك المليشيات لإجهاض تحركه، وكلما حاولت الحكومة تنظيم العلاقة مع الولايات المتحدة تجد هجوما على مقر السفارة الأمريكية أو قواعدها العسكرية في العراق، وكلما اقتربت بغداد وأربيل من اتفاق ينهي الخلافات المتراكمة بين الطرفين تتحول أربيل إلى هدف عسكري لهذه المليشيات.
هكذا باتت المليشيات قوة تعرقل خيارات العراق السياسية، ومحاولة تجاوز الأوضاع الاقتصادية والأمنية الصعبة، إلى درجة أن المخاوف صارت تهدد إجراء الانتخابات المقررة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، والتي يعوَّل عليها في انتقال العراق إلى مرحلة جديدة، عنوانها الأول والأساسي هو استعادة الدولة بشكل كامل.
وفي محاولة لاستشراف ملامح المعركة الجارية، ثمة من يرى أن "الكاظمي" لديه أوراق كثيرة، أولها الرغبة الشعبية الواسعة في التخلص من عنف المليشيات ودورها التخريبي، وثانيها تفعيل الدستور والقوانين والقضاء في ضرب المليشيات والحد من دورها ونفوذها، وثالثها التأييد العربي والدولي الواسع له في معركة سيادة الدولة والقانون على الفوضى والتخريب، لكن ما سبق لا يخفف من حجم الصعوبات والطرق المتبعة بين من يرى أن المعركة تُحل بالاستخدام القوي لهذه الأوراق في الداخل، وبين من يرى أن المعركة في الأساس ليست مع الداخل، وإنما مع الخارج، تحديدا إيران، وذلك باستخدام كل الإمكانات التي تدفعها إلى وقف دعمها لهذه المليشيات، وصولا إلى وقف تدخلها في الشؤون الداخلية العراقية والحد من نفوذ جماعاتها السياسية والعسكرية هناك، وترك العراق لخياراته السياسية المستقلة المنسجمة مع محيطه العربي، وفي كل هذا ثمة مسؤولية عربية ودولية في دعم جهود العراق لتحقيق أهدافه المنشودة.
يقضي العراق أيامه الصعبة بين مشروعي الدولة أو اللا دولة، يمتحن خياراته بالدم ولقمة العيش، فيما البوصلة تتوقف على قدرة كل طرف في امتحان استخدام أوراقه، وفرض شروطه في المواجهة، وتحمُّل أدوات الخلاص من مشروع اللا دولة، فهل ينجح "الكاظمي" ومعه القوى الوطنية والشعب العراقي في نقل بلادهم إلى مرحلة انتصار مشروع الدولة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة