المتتبع للعلاقات الأمريكية-الإيرانية منذ ما بعد 1979 يرى أن التبدلات والتغيرات الطارئة والحادة دائما ما تأتي من الطرف الأمريكي فقط.
أما إيران فتسير ضمن استراتيجية متشددة رسم ملامحها مؤسس الدولة ولا يزال مَن وراءه يسير على نهجه.
في البداية، كانت أمريكا في نظر إيران هي "الشيطان الأكبر"، وكانت التصريحات الإيرانية تجاهها حادة، مع الوقت خفَّت التصريحات وبقيت حدة المواقف، حتى لو جلس مفاوضو الطرفين معاً.
من المحطات المهمة، التي لن ينساها الأمريكيون ولا الإيرانيون، هي محطة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، باعتبارها فترة المهادنة الأمريكية والمكاسب الإيرانية، ثم محطة "ترامب" باعتبارها محطة الصدام والخسارة الإيرانية.
والغريب في الزمنين أن كل واحد حمل بصمة وتوقيع الحزبين المتنافسين في أمريكا، "ترامب" الجمهوري المتصادم، وباراك أوباما الديمقراطي المُهادن.
ورغم أن بداية الصراع وذروته بدأت ديمقراطية عبر الرئيس جيمي كارتر، فإن الزمن تبدَّل وتغيَّر وصار الديمقراطيون مُهادنين والجمهوريون متشددين مع إيران.
امتداد هذا الصراع يدفعنا إلى محطة الحاضر، فترة "بايدن الديمقراطي"، الذي يكمل مدرسة "أوباما" في نهج اللين مع إيران، والكل يذكر في أثناء حملته الانتخابية أن كان السؤال الأبرز: هل ستكون ولاية بايدن بمثابة ولاية ثالثة لأوباما؟ وهل سيكون "أوباما" حاضراً في الكواليس من بعيد؟
بعد مرور الشهور الأولى لـ"بايدن" في "البيت الأبيض" يمكن القول إننا أمام ولاية ثالثة لأوباما، خصوصاً فيما يتعلق برؤيته تجاه الشرق الأوسط، وتحديداً العلاقات الأمريكية-الإيرانية، والتي ستنعكس بدورها على أزمات إيران في المنطقة، وكذا العلاقات الأمريكية-التركية، وما ستعكسه على دول الإقليم ككل.
ولأننا معنيون برصد ما يجري من تفاوض بين أمريكا وإيران، نرى أن سياسة أوباما-بايدن مع إيران تحكمها "الرِّشى السياسية" من خلال إعادة أجزاء من أموال إيران المجمدة مقابل تنازلات إيرانية في الملف النووي، دون التطرق إلى الضغط على إيران لمنع تدخلاتها في دول المنطقة عبر أذرعها ومليشياتها.
تمثل لين "أوباما" مع إيران، خلال توقيع الاتفاق النووي عام 2015، فيما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن مسؤولين أمريكيين أرسلوا إلى إيران طائرة شحن مليئة بالأموال، مشيرة إلى أن هذه الأموال لها علاقة بإطلاق سراح خمسة أمريكيين، بينهم مراسل "واشنطن بوست"، فيما نفى "البيت الأبيض" دفع فدية لهؤلاء الرهائن، لكن بموجب الاتفاق النووي أفرجت الولايات المتحدة عن 400 مليون دولار من أموال مجمدة لإيران منذ 1981، بالإضافة إلى 1.3 مليار دولار فوائد مستحقة.
لقد اعتُبرت "محطة أوباما" بعد 2015 من أسوأ المحطات في تعقيد خارطة الصراع بالشرق الأوسط، لأن الأموال التي دخلت الخزينة الإيرانية ظهرت نتائجها في العراق ولبنان واليمن وسوريا، واستطاع بها قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، تسمين المليشيات في هذه البلاد وربطها عبر إدارة مركزية لتحقيق السيطرة وهدم الدولة الوطنية.
عاشت إيران فترة ذهبية حتى غادر "أوباما" وجاء "ترامب"، الذي عمل على إعادة تفريغ الخزينة الإيرانية، التي ملأها سابقه، فقرر الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018 وفرض حزمة عقوبات على إيران نتج عنها خسارتها نحو 200 مليار دولار، وهو تقريبا يساوي نفس المكاسب التي منحها "أوباما" لإيران، ليظهر لنا أن يد "أوباما"، التي أعطت، قابلتها يد "ترامب"، التي أخذت.
إذا كانت هذه هي المحطات السابقة، فيمكن لنا أن نعرف مسارات ما يمكن أن يصل إليه الصراع الآن، فمن الواضح أننا أمام الاستراتيجية الأمريكية نفسها في التعامل، إذ أعلن "بايدن" عودة أمريكا إلى الاتفاق النووي الإيراني، والتحاور بينهما وصل إلى جلساته السادسة والسابعة، وربما العاشرة، والمفاوض الإيراني يلاعب الأمريكي بمبدأ "ارفع العقوبات أولا" والأمريكي يرد بـ"التزم وسنرفع العقوبات".
كل يوم يقدم "بايدن" تنازلات، والإيرانيون يقدمون سوء النوايا.. "بايدن" يرفع بعض العقوبات على أشخاص وكيانات إيرانية ويدرس فك تجميد مليار دولار وسط معارضة الكونجرس الأمريكي، واستعادت إيران حقها في التصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن كانت غير قادرة على ذلك بسبب عدم دفع مستحقاتها، في الوقت نفسه، تحرك إيران أذرعها في العراق لاستهداف القواعد الأمريكية في بغداد وأربيل وغيرها من المدن العراقية.
سياسة "أوباما"، ومن بعده "بايدن"، أربكت الشرق الأوسط وعمّقت صراعاته وجعلت دوله تتحرك بصورة أحادية لتأمين مصالحها.
ويظل قلق الدول العربية مشروعاً وهي ترى أن سيناريو ما بعد 2015 ممكن أن يتكرر ويُعاد التمويل الإيراني إليها، خصوصا إذا جاءت انتخابات الرئاسة الإيرانية بإبراهيم رئيسي خلفا لحسن روحاني، وقتها سيكون الحرس الثوري هو صاحب الكلمة العليا في إيران، ما سينعكس بالطبع إرهابا وعنفا على دول المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة