الطريق إلى اتفاقٍ في مفاوضات فيينا النووية، لم تصل إلى نهايتها بعد، هي على الأقل تحتاج إلى جولة سادسة، وربما تليها سابعة وثامنة وتاسعة.
بحسب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس.. واشنطن تقول إنها تريد ضمان "عودة كاملة" من إيران إلى التزاماتها في اتفاق 2015، فيما طهران تريد الأمر ذاته من الولايات المتحدة، ولكنَّ الطرفين يبحثان عن أفضل شروط ومكاسب.
يقول المرشد الأعلى لإيران إن بلاده "تحتاج إلى أفعال وليس أقوال الأطراف الأخرى"، ومساعد وزير الخارجية، كبير المفاوضين الإيرانيين في فيينا، عباس عراقجي، يوضح ذلك بالقول إن الوقت قد حان كي يتخذ الأمريكيون والأوروبيون "قراراتهم الصعبة".
الأسئلة ذاتها لا تزال قائمة منذ اليوم الأول للمفاوضات رغم أن الفرقاء يُقرُّون بتحقيق تقدم فيها.
أول الأسئلة هو: مَن يجب عليه العودة للاتفاق أولاً.. إيران أم الولايات المتحدة؟،
السؤال الثاني والثالث: كيف ومتى تكون هذه العودة؟..
لا يتحدث أيُّ طرفٍ عن ملفات خلافية أخرى مع إيران تُبحث على طاولة فيينا، ما يؤكد حقيقة واحدة مفادها أن إحياء الاتفاق النووي القديم هو هدف التفاوض دون زيادة أو نقصان.. جميع الأطراف يبنون على ذات الاتفاق، ولكن كل يبحث عن ضمانات أقوى لمصالحه مقارنة بما تضمنه النص الأصلي المتفق عليه في عام 2015، بحيث لا تنسحب من الاتفاق أي إدارة أمريكية تصل إلى البيت الأبيض مستقبلا، ولا تمتلك إيران قنبلة نووية بأي حال من الأحوال لعقود مقبلة.
امتثال إيران لضوابطَ نووية دولية قد يكفي واشنطن، ولكنه لن يكفي حلفاءها في المنطقة.. رغم ذلك يمضي الرئيس جو بايدن نحو نصر أمريكي أناني في فيينا، والطامة الكبرى إن شابه سلفه الأسبق باراك أوباما في عطاءاته لطهران.
كل المؤشرات حتى الآن تميل إلى هذا الاعتقاد، فإدارة "بايدن" لا تمارس أيَّ نوع من الضغط على إيران، سواء من أجل إتمام الاتفاق النووي بسرعة، أو لحلحلة أزمات عديدة ترتبط بطهران وأذرعها ومليشياتها في المنطقة.. كل شيء مُعلقٌ كأنَّ الزمن قد توقف.. لم يخرج الإيرانيون من سوريا، ولم يسمح "حزب الله" في لبنان بتشكيل حكومة جديدة، ولم تتوقف مليشيات إيران في العراق عن اغتيال الناشطين ومحاصرة الدولة، كما لم يقبل الحوثيون بوقف الحرب في اليمن.
صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية تذهب عكس ذلك، وتقول إن الأمريكيين والأوروبيين يحاولون إدراج إشارة إلى برنامج إيران للصواريخ البالستية ونشاطها العدائي في الشرق الأوسط ضمن اتفاق فيينا المرتقب، لكن طهران لم تقبل بذلك بعد.
إنْ لم تترافق هذه الإشارة بعقوبات أو إجراءات ملزمة لطهران، فإن أثرها سيكون بمثابة ذرِّ الرماد في العيون، ولن تكفي أبدًا لتهدئة مخاوف حلفاء الولايات المتحدة إزاء عدوانية إيران وصواريخها ومليشياتها في المنطقة، بقدر قلقهم من امتلاكها سلاحا نوويًّا.
لغة الإشارات في مثل هذه الحالات لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع، لن تتراجع إيران عن أحلامها في محاولة الهيمنة على الدول العربية، ولن تُوقف تهديدها لأمن الشرق الأوسط عبر صواريخها البالستية أو مليشياتها إلا بوجود رادع حقيقي يتمثل بعقوبات اقتصادية على الأقل، أما إضافة بند فضفاض ومائع حول سلوك طهران العدواني في ذيل الاتفاق النووي المنتظر فلن يمنع "الحرس الثوري" من تزويد مليشياته بالسلاح، ولن يجبر إيران على مغادرة سوريا أو العراق أو اليمن أو لبنان.
بعد العثور على جزيئات نووية يبلغ عمرها عشرات السنين في مفاعلات إيران، ازداد القلق الدولي بشأن احتمال وجود برنامج نووي سري لطهران بلغت من خلاله مشارف الحصول على قنبلة نووية، أو حصلت عليها فعلاً.. ومع تمنّع الإيرانيين عن توضيح أصل هذه الجزئيات وحكايتها، صار عامل الوقت ضاغطًا على الأطراف كلها، وربما يجد الأمريكيون والأوروبيون في ذلك ذريعةً للتنازل عن إدراج أي بندٍ لا يرتبط مباشرة وصراحةً وحصرًا بالبرنامج النووي الإيراني.
كثيرة هي الدلائل على أن إدارة "بايدن" تسعى لإكمال ما بدأه أوباما قبل ست سنوات في الرهان على إيران والتغاضي عن سلوكها في المنطقة لقاءَ الاتفاق النووي، ولكن الزمن قد تغير، والدول التي ظنَّها "أوباما" غير مؤثرة على خارطة المنطقة، أو أنها لن تخالف مشيئة بلاده إن اتفقت مع طهران، أصبحت لاعبًا محترفًا في الشرق الأوسط، وتعلمت كيف توازن بين مصالحها وبين مصالح الولايات المتحدة، كما تعلمت أيضًا كيف تعبر عن امتعاضها من "انتهازية" حلفائها قبل خصومها.
كل ما جرى خلال السنوات الست الماضية، وتتواصل مفاعيله إلى الآن، يؤكد أن الدول العربية لم تعد تتحرك في فلك السياسة الخارجية الأمريكية دون مراعاة لمصالحها الخاصة.. لقد باتت أيضا تدرك مكامن قوتها وقدرتها على التأثير في خطط "البيت الأبيض" تجاه الشرق الأوسط، بغض النظر عن الرئيس الذي يسكنه، وبالتالي لم يعد تفضيل إيران على جميع دول المنطقة خِيارًا أمريكيًّا صائبًا.
إسرائيل ذاتها تغيّرت علاقتها مع الولايات المتحدة مع قدوم الرئيس جو بايدن إلى "البيت الأبيض" مطلع العام الجاري. لقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مراتٍ محاولات تصالح واشنطن وطهران، واستهدف منشآتٍ نووية وغير نووية لإيران ليثبت أن الأمريكيين والأوروبيين في مفاوضات فيينا يتساهلون مع الإيرانيين، ويتجاهلون مخاوف حلفائهم من منهج طهران بالمنطقة.
إن مرر الاتفاق النووي دون قواعد لضبط سلوك إيران ونشاطاتها في الشرق الأوسط سيُضطر الأمريكيين والأوروبيين للتعامل مستقبلا مع مشكلات كثيرة يفرزها تفضيلهم طهران على حلفائهم.. حينها فقط سيدرك "بايدن" و"أوباما" أن سياسة الترهيب بـ"بعبع" إيران لن تعود بالنفع على الولايات المتحدة، كما سيدركان أيضًا أن الرهان على "الإسلام السياسي" هو مجرد إطلاق نار على القدمين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة