من جديد، يستيقظ العالم على الألم والأسى، وكأن دعوات الكراهية لا تود أن تفارق البشرية. بل تجد، ومن أسف، طريقها عبر الظلام لا النور إلى مساقات ومسارات الإنسانية في حاضرات أيامنا.
على حين غرة، استيقظت كندا على واقعة مثيرة وخطيرة، شاب عشريني، فاشي الأفكار، يدهس أسرة كندية كل ذنبها أن ملابسها أوضحت أنها مسلمة، عائلة من أصول باكستانية، أم تعد رسالتها العلمية للدكتوراه، وأب محب للعبة الكريكيت تلازم وجهه الابتسامة، وابنة مراهقة كانت صديقة لكثيرين، وجدة شغوف، هؤلاء كلهم قضوا دهسا، بينما نجا الابن الأصغر، وإن كان المرء يتساءل: أي حياة يمكن لهذا المسكين أن يحياها بعد فقده العظيم؟
تبدو القصة خطيرة ورهيبة في الوقت ذاته، وأبعادها المستقبلية أكثر هولا من آنيتها، ذلك أن كندا عرفت منذ البدايات بأنها أرض الهدوء والسكينة، وعالم استضافة الغرباء والمهاجرين، بل إن الجميع يتذكر ما جرت به المقادير في السنوات الأربع الماضية في الداخل الأمريكي، حين ضيق الرئيس السابق دونالد ترامب الخناق على اللاجئين والمهاجرين، ساعتها أعلن رئيس الوزراء الكندي، ترودر"، فتح أبواب بلاده لعشرات الآلاف من هؤلاء وأولئك دفعة واحدة ومن غير أدنى محاصصة أو تمييز بسبب اللون أو العرق، الجنس أو الدين.
تميزت كندا عبر العقود السابقة بأنها ذات توجهات إنسانية تميل إلى الاشتراكية بمعناها الإيجابي، حيث الدولة تتشارك مع كل أفرادها في منظومة القيم الخلاقة، حيث فرص العمل للجميع، والرعاية الصحية، والفرص التعليمية، ما جعل منها "جنة للمهاجرين" الجدد إن جاز التعبير.
خيل إلينا ولكثير من المراقبين خلال العقدين الماضيين أن كندا لن يقاربها التطرف الفكري من اليمين أو اليسار، وأن النزعات القومية الشوفينية لن تدنو منها، لكن ناثنائيل فيلتمان، البالغ من العمر عشرين عاما، صعد إلى الرصيف عمدا راصدا مترصدا الأسرة الباكستانية ليصطدم بهم فيما كانوا يهمون بعبور الطريق.
متى ولد ناثنائيل، ومتى تكونت لديه عقلية الإرهاب كما وصفه ترودر، بل أكثر من ذلك، متى تسللت مشاعر الكراهية إلى قلبه الغض الأخضر؟
الإجابات تحملنا على القطع بأن هناك كارثة كونية، تجاوزت أي دولة منفردة حول العالم، فقد أضحت الأفكار تطير دون أجنحة، تحملها وسائط تواصل اجتماعي غير مقيدة بقيود أخلاقية، أو توجهات روحانية تسعى في سياق الخير وتحارب الشر.
اختلط الأمر على البشرية في العقدين الأخيرين، ما بين أصوليات شرقية وقوميات غربية، ما بين دواعش ويمينيين بيض لا يقلون هولا في عدائهم لعموم البشر.
أي منطلق يمكن للمرء أن يتصور أنه كان وراء قيام هذا الإرهابي بفعلته الشنعاء؟
حتما، لم تكن الأسرة الباكستانية تزاحم الفتى الغر على فرص العمل أو تنازعه على المسكن أو المأكل والمشرب، فمدينة "أونتاريو"، التي وقع فيها الهجوم في مقاطعة لندن الكندية، لا يزيد عدد سكانها على 200 ألف نسمة، ومساحتها شاسعة، ما يعني أن طيور الظلام هي التى عششت في عقل القاتل، ومشاعر الكراهية هي التي تسربت إلى قلبه، وربما أعتقد للحظة، إن كانت له دالة على الفكر المعمق، في صحة ما قاله الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر في ستينيات القرن المنصرم: "الآخر هو الجحيم".
أثبتت حادثة كندا الأليمة أنه لم يعد هناك عاصم من شر التشدد والتطرف حول العالم، وكندا التي كنا نظنها في منأى عن فخاخ شياطين العبث الإنساني، قد سقطت في براثنه رغم المشاعر الطيبة لرئيس الوزراء ترودر، والذي أبدى مشاعر رافضة طولا وعرضا لما جرى.
حتما، يبدو أن هناك من يسعى جاهدا لتشويه صورة الحياة متعددة الثقافات في الداخل الكندي، هذا المجتمع الذي فتح الأبواب مؤخرا أمام أكثر من 30 ألف لاجئ، عدا بقية الجنسيات الأخرى.
لم يكن حادث الأسرة الباكستانية هو الأول من نوعه، فخلال السنوات الأربع المنصرمة، ظهرت ملامح ومعالم لم تكن كندا على عهد بها من قبل.
ففي أوائل أكتوبر 2016، فوجئ الكنديون بقيام بعض من أعضاء إحدى الجماعات الغربية اليمينية المتطرفة، جماعة الكوكلوكس كلان، بوضع حقائب مليئة بالمنشورات أمام عشرات المنازل بمدينتين في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا.
قبل ذلك، وفي صيف العام نفسه، وجدت منشورات تحمل شعارات الكراهية في حي تقطنه جاليات مسلمة من المهاجرين واللاجئين.
ولعل الطامة الكبرى والكارثة المثيرة للخوف من المستقبل، تمثلت في نشوء وارتقاء مثل هذا الفكر الشرير داخل عقول الطلاب في الجامعات الكندية، هؤلاء الذين سيضحون حتما في القريب العاجل رجالات تلقى على عاتقهم إدارة شؤون الحياة في الداخل الكندي، وقد تجلى ذلك من خلال لافتات مناوئة للمسلمين والسيخ في حرمين جامعيين في ألبرتا، ما يعني أن مشاعر الكراهية قد اخترقت العملية التعليمية اليوم، والأكاديمية غدا.
هل بات التطرف اليميني في كندا حقيقة واقعة مؤكدة؟
يخشى المرء أن يكون ذلك كذلك، والعهدة هنا على عالم الاجتماع الكندي ديفيد هوفمان، صاحب الكتاب الشهير "التطرف اليميني في كندا"، والذي قام بدراسة مكثفة على نشاط اليمين المتطرف في كندا الأطلسية بين عامي 2000 و2019، فما الذي تم اكتشافه؟
تبدو الفترة الزمنية محل البحث مثيرة للتأمل، ذلك أنها تبدأ من عند التاريخ المفصلي في أوائل القرن الحادي والعشرين، حين حلت جماعة المحافظين الجدد بأفكارهم ومشروعهم اليميني للسيطرة على العالم، ومن سوء الطالع أن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتزيد الطين بلة وتفتح الأبواب واسعة أمام اليمين المتطرف في الغرب ليواجه إرهابيون أتوا من الشرق.
وتنتهي الفترة البحثية للدراسة عند 2019، أي بعد ثلاث سنوات من وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في "البيت الأبيض"، وما راج طوال تلك السنوات من أفكار لم تصب أبدا في خانة المصالحة بين الأمم والتعايش بين الشعوب.
مهما يكن من أمر، فقد وجد فريق البحث الخاص بالبروفيسور "هوفمان"، أن هناك 29 مجموعة يمينية متطرفة نشطة في كندا الأطلسية، والكارثة أن تلك المجموعات باتت تقدم ذاتها للمجتمع في صورة جماعات خيرية تقدم أعمالا إنسانية للكبار والمسنين.
لا يغيب عن أعين القارئ المحقق والمدقق أن نوعية تلك الحوادث تمثل وقودا لجماعات أصولية متطرفة في أماكن أخرى حول العالم، وتدفعها في تيار مقابل واتجاه معاكس بحسب قوانين الفيزياء، ما يعني أن العالم سوف يكون محكوما بالمتطرفين والإرهابيين، الأمر الأشد هولا من الحرب العالمية، بل هي بالفعل حرب عالمية من الكراهية والتربص.
حادثة كندا تبين لنا بوضوح أن الكراهية لا تفيد، وأن السعي في طريق تعميق مشاعر الأخوة الإنسانية هو الطريق الأصوب والأسلم لاستنقاذ البشرية من دائرة الانتقام الجهنمية، فهل من آذان صاغية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة