تراجعت أخبار لبنان عن دائرة الضوء، ولم تَعُد موضوعاً للاهتمام الدبلوماسي على المستويين الإقليمي والدولي.
وذلك رغم تدهور مستوى المعيشة والخدمات للغالبية العظمى من اللبنانيين، والتي أخذت أشكال الانقطاع المستمر للكهرباء، وارتفاع الأسعار، واختفاء الأدوية من الصيدليات، والنقص الحاد في حليب الأطفال، الذي تحتاج إليه أسر كثيرة. يحدث هذا وسط ظروف انتشار فيروس كوفيد 19، ووصول النظام الصحي إلى حافة الانهيار، وإضراب الأطباء عن العمل أكثر من مرة لتنبيه المسؤولين إلى التداعيات الوخيمة للوضع الصحي الراهن.
وأدى كل ما تقدم إلى أن أكثر من ثُلثي الشعب اللبناني صار في حاجة إلى الدعم الاقتصادي وفقاً لتقارير البنك الدولي.
ازدادت الهُوة بين المشكلات، التي يواجهها المجتمع والضاغطة على أوتاره الحساسة، وبين قدرة النُخب السياسية الحاكمة على التعامل معها والاستجابة لها.
يدل على ذلك، أنه بعد عشرة أشهر من الانفجار المُروِّع في مرفأ بيروت في أغسطس 2020، فإن التحقيقات الخاصة به لا تزال تُراوح مكانها. والأرجح، أن الجريمة سوف تُقيَّد ضد مجهول أو ضد أشخاصٍ لا يُمكن الاهتداء إلى أماكنهم بالضبط.
ويدل على ذلك أيضاً، أن وزارة تصريف الأعمال، التي يرأسها حسان دياب، لا تزال تُمارس عملها بسبب فشل مَن كُلِّفوا بتشكيل وزارة جديدة في أداء هذه المهمة.
ومع أن رموز السُلطة والقوة في لبنان تعترف بوجود هذه الأزمة، فإنهم لم يتمكنوا من التعاون معاً لتشكيل الوزارة وإنقاذ لبنان من وهدته، وحرص كل منهم على إبراء ذمته باتهام الأطراف الأخرى بالمسؤولية عن استمرار هذه الأزمة المُستحكمة.
من شواهد الأزمة، إعلان الحكومة اللبنانية توقفها عن سداد أقساط الديون وفرض مزيد من القيود على عمليات سحب العُملات الأجنبية، وعودة الاغتيالات السياسية إلى الساحة اللبنانية، والتي كان آخرها إطلاق الرصاص على الكاتب والناشر لقمان سليم، الذي أرجع الأزمة اللبنانية إلى جرثومة "الطائفية"، التي فتكت بالجسد السياسي اللبناني، وجعلت قادة الأحزاب يضعون المصالح الضيقة لكل طائفة في مكانة أعلى من مصلحة الوطن، وكذا تصريحات حسان دياب لتليفزيون "بي بي سي" بأنه كان يعرف عن وجود فساد في الأجهزة الحكومية ولكنه لم يتصور أن يصل إلى الدرجة التي وجدها بعد تولّيه رئاسة الوزراء.
تصريح آخر لـ"دياب" ورد فيه أن الفساد في لبنان أقوى من الدولة، وكذلك تصريحات فريد بلحاج، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي أرجع فيها استمرار الأزمة اللبنانية إلى عجز النُخبة السياسية عن التوافق وأسماها بـ"نُخبة اللا قرار".
في وسط هذه الظروف، خرج الأمين العام لـ"حزب الله"، مُهدداً الحكومة بأنها إذا استمرت على فشلها في حل أزمة المحروقات، فإن "حزب الله" سوف يذهب إلى إيران ليتفاوض ويشتري البنزين والمازوت منها ونقلها إلى ميناء بيروت.
شر البلية ما يُضحك، لأن الحديث عن فشل الحكومة اللبنانية من جانب "نصر الله" لا معنى له، في ضوء أن "حزب الله" وأنصاره جزء من الحكومة، بل يمثّلون أقوى مكوناتها.
ثم إن التهديد بأن الحزب سوف يتفاوض مع إيران ويشتري المحروقات هو تأكيد لكونه "دولة داخل الدولة"، وأنه يستطيع التفاوض لشراء المحروقات ونقلها إلى ميناء بيروت دون إذن أو موافقة من سلطات الدولة اللبنانية.
أضف إلى ذلك أن القيام بهذا الأمر -مع افتراض إمكانية تحقيقه- سوف يوقع لبنان تحت مقصلة العقوبات الأمريكية، ما يؤدي إلى استفحال الأزمة أكثر.
وللأسف، فإن كل المؤشرات توضح عدم قدرة النُخبة الحاكمة في لبنان على الوصول إلى كلمة سواء، وأنها تحتاج إلى تدخلات خارجية لتيسير الوصول إلى حل.
وقد حاول فعلا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في ذلك المسار خلال عام 2020، وزار لبنان مرتين، ووصل إلى اتفاق مع قادة الأحزاب والكُتل السياسية، ولكنهم لم يفوا بما تعهدوا به، وتلا ذلك زيارة وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لورديان، في مطلع مايو 2021، والتي هدد فيها بأن بلاده سوف تطبق مجموعة من العقوبات على عدد من السياسيين اللبنانيين المتورطين في قضايا فساد ويعرقلون عملية تشكيل حكومة جديدة، وأن هذه العقوبات سوف يتم تبنِّيها من جانب الاتحاد الأوروبي.
وأعقب ذلك إعلان وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على 7 لبنانيين من قيادات "حزب الله"، ثُم جاءت زيارة قائد الجيش اللبناني إلى فرنسا وعرض الأوضاع الاقتصادية المُتدهورة للضباط والجنود، ما يُهدد بعدم قدرتهم على القيام بمهامهم في حفظ الاستقرار الداخلي، وتعهُّد "ماكرون" بحشد الدعم المالي للجيش اللبناني باعتباره العنصر الضامن للاستقرار الداخلي.
ودخلت روسيا على الخط، إذ استقبل ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي والمبعوث الرئاسي في الشرق الأوسط، ممثلين عن الرئيس اللبناني ميشيل عون، ورئيس الوزراء المُكلَّف سعد الحريري، ولكن الدبلوماسية الروسية لم تخرج بعد بمبادرة، مما يعطي الانطباع بأن إمكانية الوصول إلى حل يُرضي الأطراف كافة لا يزال بعيداً، ولا أحد يستطيع أن يتوقع متى تنتهي حالة الجمود السياسي و"اللا قرار" في لبنان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة