أثر النقص في رقائق أشباه الموصلات على مصنعي السيارات وعمالقة الصناعات التكنولوجية، ودق أجراس الإنذار من واشنطن إلى بروكسل وبكين.
وأثارت الأزمة سؤالا مركزيا عند صانعي السياسة، والمستهلكين والمستثمرين وهو: لماذا لا يمكننا صنع المزيد من الرقائق؟
وترد وكالة "بلومبرج للأنباء" بأن هناك إجابتين على هذا السؤال أحدهما بسيطة والأخرى معقدة. والإجابة البسيطة هي أن صنع الرقائق يعد صعبا إلى حد كبير، بل ويزداد صعوبة.
أما الإجابة الأكثر تعقيدا هي أنه يلزم عدد من السنوات لبناء منشآت لتصنيع أشباه الموصلات كما أنه يلزم إنفاق مليارات الدولارات وحتى مع هذا تعد اقتصاديات التصنيع قاسية حيث يمكن أن تخسر لو كانت خبرات التصنيع لديك تعد متأخرة ولو بجزء بسيط عن المتنافسين. وأطلق رئيس شركة إنتل السابق كريج باريت على شركته لتصنيع الرقائق الدقيقة أنها الشركة التي تضم المعدات الأكثر تعقيدا التي قام الإنسان بصنعها.
وهذا هو السبب وراء لماذا تواجه البلدان صعوبة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الرقائق. وقد جعلت الصين من استقلالها في مجال الرقائق أولوية وطنية في خطتها الخمسية الأخيرة، بينما تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن ببناء سلسلة إمداد أمريكية آمنة بإنعاش التصنيع المحلي. وحتى الاتحاد الأوروبي يفكر في إجراءات لصنع الرقائق التي يحتاجها. ولكن النجاح ليس مضمونا على الإطلاق.
وتقليديا يستلزم الأمر أكثر من ثلاثة أشهر لصنع رقيقة من الرقائق ويتضمن مصانع ضخمة، وغرف خالية من الأتربة، وماكينات تتكلف عدة ملايين من الدولارات، وقصدير منصهر وليزر. والهدف النهائي هو تحويل رقيقة السيليكون-وهي عنصر يتم استخلاصه من الرمل-إلى شبكة من بلايين المحولات الدقيقة تسمى ترانزستورز والتي تشكل الأساس لرقيقة أشباه الموصلات التي ستعطي في نهاية المطاف للتليفون، أو الكومبيوتر، أو السيارة، أو الغسالة أو القمر الصناعي قدراته الحاسمة.
هناك حاجة إلى المهارة التكنولوجية واستثمارات كثيفة حتى يمكن إنتاج رقائق الخمسة نانو متر الجديدة (وهي تعد أنحف 15 ألف مرة من شعرة الإنسان) وهو ما قلل عدد المصنعين إلى حفنة قليلة من اللاعبين، بشكل أساسي في تايوان وكوريا الجنوبية. وفي نفس الوقت، شهد الطلب على الرقائق مع الجائحة العالمية صعودا مع تزويد المواطنين لمكاتب منازلهم بالأدوات، ووجدت المعالجات الدقيقة الجديدة طريقها إلى العديد والعديد من الأجهزة.
وقد عاث نقص الرقائق فسادا في سلاسل الإمداد العالمية خلال العام الماضي، وهو ما أدى إلى زيادة الضغوط التضخمية وتحفيز الحكومات في الاقتصادات الرئيسية على إعادة التفكير في اعتمادهم على الواردات من رقائق السيليكون الدقيقة التي تعد شريان الحياة للاقتصاد الجديد. ولكن لعب لعبة اللحاق بالأكثر تقدما لن تكون رخيصة.
وقام الرئيس الأمريكي بوضع 52 مليار دولار لتعزيز صناعة الرقائق المحلية، وهي استجابة جزئية لتسريع الصين بخطتها لوضع أشباه الموصلات في قلب عملية التنمية بها على مدار خطتها الخمسية 2021-2025 التي تتضمن إنفاق 1.4 تريليون دولار على البحوث والتطوير.
وقد التزمت شركات كوريا الجنوبية مثل شركة سامسونج للإلكترونيات، وشركة إس كيه بإنفاق 450 مليار دولار على مدى عشر سنوات في البحث في مجال الرقائق والتوسع في صناعتها، بينما خصصت الشركة القائد في المجال "تايوان لصناعة أشباه الموصلات" وحدها نحو 100 مليار دولار للأعوام الثلاثة المقبلة.
واللاعب الجديد في هذا الحقل هو اليابان، حيث تقول اليابان إن إحياء صناعة أشباه الموصلات يعد مشروعا وطنيا وهناك الآن علامات بدأت في الظهور على أن الحكومة مستعدة لتخصيص أموال حقيقية وراء هذه الكلمات.
وكانت عقود من القصور في الاستثمارات قد تركت البلاد، التي كانت في يوم من الأيام أكبر منتج لأشباه الموصلات عالميا، معتمدة على كوريا الجنوبية وتايوان في معظم ما تحتاجه من أشباه الموصلات. واليابان معرضة بذلك للمخاطر لأنها بعد عقود من نقص الاستثمارات كان على صناعاتها المختلفة استيراد نحو ثلثي ما تحتاجه من رقائق أشباه الموصلات. وجاء النقص العالمي هذا العام في أشباه الموصلات ليؤكد على مدى خطورة هذا الأمر.
لذا أعلنت وزارة التجارة هذا الشهر أن تقوية الصناعة المحلية لأشباه الموصلات مهمة وطنية، ليست أقل أهمية من تأمين الغذاء والطاقة.
ولوضع الخطة موضع التنفيذ، إذا، على اليابان أن تترك جانبا قضية ديونها الضخمة. فهناك على الأقل حاجة لتريليون ين (9 مليار دولار) ينبغي تخصيصها هذا العام المالي وتريليون ين أخرى بعد ذلك، وهذا وفقا لرأي تتسورو هيجاشي، الرئيس السابق لأكبر مصنع للرقائق، طوكيو إلكترون، وهو الآن أعلى مستشار للحكومة في استراتيجيتها لأشباه الموصلات.
وقال هيجاشي في الأسبوع الماضي "لو أضعنا هذه الفرصة الآن، فربما لن تكون هناك فرصة أخرى."
وأتت تعليقات في وقت سابق من هذا الشهر من مسؤولين في الحزب الحاكم من أن هناك تمويلا حقيقيا آت لصناعة أشباه الموصلات.
ومع ذلك فما يزال التمويل الياباني المقترح ضئيلا بالمقارنة بالأموال التي تم التعهد بها في أماكن أخرى، والتي ستذهب سريعا في عصر يتكلف فيه مصنع واحد متقدم لصناعة الرقائق أكثر من 10 مليارات دولار. ولكن الانفتاح الجديد على التعاون مع قادة تكنولوجيا الرقائق من بلدان أخرى يزيد من فرص نجاح اليابان، على الأقل إلى حد ما.
وكانت الجهود السابقة لإصلاح صناعة الرقائق في اليابان قد ركزت على محاولة خلق صناعات قائدة محليا بدمج مصانعها المحلية المتعثرة. وهو ما لاقى في أغلبه الفشل.
وهذه المرة تتضمن الاستراتيجية استخدام الحوافز لإغراء المصانع العالمية مثل شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، أكبر مصنع للرقائق حسب الطلب، وذلك من أجل بناء قاعدة صناعية في اليابان بالاشتراك مع الشركاء المحليين.
ولم تقل شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات فيما إذ كانت لديها الرغبة في المشاركة في مثل هذه الاستراتيجية، ولكن في الشهور الأخيرة أقامت شركة تابعة لها بالقرب من طوكيو لتوسيع عملية البحث في الحصول على رقائق ذات بعد ثلاثي أسرع وأكثر كفاءة في الطاقة وذلك بالمشاركة مع العديد من الشركاء اليابانيين. وقد وضعت الحكومة نحو 170 مليون دولار لتمويل هذا المشروع.
وما هو على المحك هنا هو السيطرة على صناعات المستقبل، مثل الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة، التي تعتمد على قوة حوسبة هائلة وأدق وأسرع الرقائق.
وربما السؤال الذي لم يتم التفكير به حتى الآن بسبب الأزمة الراهنة هو ما إذا كانت كافة هذه الخطط العالمية المتنافسة يمكن أن تؤدي إلى وجود فائض عرض في المستقبل؟ وتنتقل الشكوى من ثم من نقص الرقائق إلى الوفرة فيها. فوفقا لرابطة صناعة أشباه الموصلات، سوف تبدأ شركات أشباه الموصلات في بناء 19 مصنعا جديدا كبير الحجم بحلول نهاية هذا العام و10 أخرى في عام 2022.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة