قُتلت سيدة كردية كانت عضواً بحزب "الشعوب الديمقراطي" التركي، قبل أيام، في هجوم مسلح على مقر الحزب.
يُعيد الحادث، الذي وقع في ولاية إزمير الساحلية، غربي تركيا، إلى الأذهان، ما جرى في "تركيا التسعينيات"، حينما وقعت اغتيالات سياسية كثيرة، لكنّ مَن يراجع الأمر يجد أن مثل هذه الاغتيالات لم تتوقف، وكان ضحاياها دوماً ينحدرون من أقليات تركيا.
وخلال تسعينيات القرن العشرين، قُتلت شخصياتٍ كردية مؤثرة بتركيا في ظروفٍ غامضة، بعدما اتهمتهم السلطات بدعم حزب "العمال الكردستاني".
ففي صيف عام 1992، قُتِل رجل الأعمال الكردي ساواش بولدان، زوج الرئيسة المشاركة الحالية للحزب المؤيد للأكراد، وذلك بعد أيامٍ من تهديد المسؤولة التركية البارزة حينها، تانسو تشيلر، لرجال أعمالٍ أكراد، إذ قالت إنهم "يدعمون حزب العمال الكردستاني" و"الدولة ستستخدم كل الوسائل الممكنة بحقهم".
تلا ذلك استهداف شخصياتٍ تركية مؤثرة، بينها الصحفي الاستقصائي أوغور مومجو، الذي قُتِل عام 1993.
واستكمالا لعمليات الموت الغامضة، فقد أعلنت عائلة الرئيس التركي الأسبق، تورغوت أوزال، أنه مات مسموماً عام 1993، وذلك بعد سعيه الحثيث لإيجاد "حلّ سلمّي" للمسألة الكردية في تركيا.
لقد شهدت تركيا في حقبة التسعينيات هجماتٍ دموية، أكّد زعيم المافيا التركي الشهير سادات بيكير، "وقوف السلطات خلفها"، وذلك في مقاطع فيديو نشرها قبل أسابيع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأكد في واحدٍ منها أن السلطات التركية "كانت قد طلبت منه اغتيال الصحفي مومجو في التسعينيات"، دون أن يُخفي أيضاً وقوف أنقرة وراء مقتل رجل الأعمال الكردي "بولدان".
بناء على ذلك، فلا مانع منطقيا أن تكون أنقرة قد استخدمت بعض زعماء المافيا وعصابات مسلّحة ومتطرفين ضد شخصيات وجهات كردية، خاصة حزب "العمال الكردستاني"، وربما كانت تستخدمهم أيضاً للتخلص من بعض الشخصيات التركية المؤثرة، التي كانت تتعاطف مع القضية الكردية أو تطالب بحلولٍ سلمية لها.
ومع وصول حزب "العدالة والتنمية"، الذي يقوده أردوغان، إلى السلطة عام 2002، اعتقد البعض أن مرحلة التسعينيات انتهت إلى الأبد، خاصة أن الرئيس التركي الحالي كان قد تعهّد حينها بالقضاء على مثل هذه الهجمات والتخلص من "المافيات" التي تقف خلفها، إلا أن هذه الوعود فشلت مع عودة جرائم القتل الغامضة إلى تركيا مجدداً، حيث قُتِل الصحفي الأرمني المعروف هرانت دينك، بعد أقل من 5 سنوات من وصول "العدالة والتنمية" إلى السلطة، وتحديداً في يوم 19 يناير/كانون الثاني عام 2007 أمام مقرّ الصحيفة، التي كان يرأس تحريرها في إسطنبول.
وتلا اغتيال الصحفي الأرمني، مقتل المحامي الكردي طاهر آلتشي، الذي كان يدير فرع نقابة المحامين بمدينة "ديار بكر"، جنوب شرقي تركيا، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، ناهيك بالاستهداف المتكرر لمقرّات أحزابٍ موالية للأكراد، مثلما حدث مراتٍ عدة مع حزب "الشعوب الديمقراطي" عام 2015.
عمليات الهجوم على المعارضين تلك لم تتوقف في الوقت الراهن، ودعّم ذلك أن السلطات لم تقم بمعاقبة الجناة في العمليات السابقة بالشكل المطلوب، ففي بداية العام الجاري تعرّض آيهان سفر أوستن، أحد أبرز مؤسسي حزب "المستقبل"، الذي يتزعّمه أحمد داوود أوغلو، لمحاولة اغتيال بطلقٍ ناري، كذلك تعرّض زميله في الحزب، سلجوك أوزداغ، لهجومٍ مشابه.
وتكررت مثل هذه المحاولات مع صحفيين وساسة آخرين، ولم تتحرك الشرطة والقضاء لمحاسبة الجناة.
وفي 17 يونيو الجاري، قُتِلت الكردية "بويراز" بطلقٍ ناري داخل مقر حزب "الشعوب الديمقراطي" في وضح النهار، وكان زعيم مافيا تركي آخر، وهو علاء الدين تشاكجي، قد هدّد زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو بالقتل قبل أشهر، بعدها هدّد نجله، علي تشاكجي، الوزير السابق علي باباجان بالقتل.
مقتل "دينك" و"آلتشي" و"بويراز" يؤكد استهداف الشخصيات الكردية والأرمنية المؤثرة في تركيا، فمنفذ العملية الأخيرة في "إزمير" ظهرت له صور في سوريا رافعاً شارة تنظيم "الذئاب الرمادية" التركي المتطرف، الذي يستهدف الأكراد والأرمن وغيرهم من أقليات تركيا.
وتترك هذه الصور علامات استفهام حول حادث "إزمير"، منها احتمالية وجود "تهاون" من السلطات الأمنية، فالصور، التي التُقطت لمنفذ الهجوم بينما كان يحتضنه عنصر من الشرطة، توحي بـ"تساهل" معه خلال تنفيذ مخططه، خاصة أن مقر حزب "الشعوب الديمقراطي" يحظى بحمايةٍ أمنية دائمة من قوات الشرطة، ومع ذلك تمكن منفذ الهجوم من دخول المبنى بسهولة وقتل "بويراز"، وحاول حرق المقر، لكنه فشل في ذلك، وكان ينوي أيضاً قتل أكبر عددٍ ممكن من أعضاء الحزب، بحسب شهادته الأولية للشرطة.
منفذ الهجوم على مقر حزب الشعوب الديمقراطي الآن في قبضة السلطات التركية، لكن مَن يضمن أن يُحاكم فعلياً بطريقة عادلة؟، فمختلف الهجمات الشبيهة، التي حصلت في السابق واستهدف مرتكبوها شخصياتٍ كردية وأرمنية وغيرها، لم تُحاسَب قضائيا بالشكل المطلوب، ورغم اغتيال المحامي الكردي "آلتشي" قبل نحو 6 أعوام، والصحفي الأرمني "دينك" منذ نحو 14 عاماً، فإن قاتلَيهما لم يُحاكَما إلى الآن، ما يُعزّز فرضية "التساهل والتهاون" مع مثل هذه الهجمات الدموية ضد المعارضين.
هذه الأمثلة الثلاثة توحي بأن عمليات القتل السياسي لم تتوقف في تركيا، سواء قبل وصول "العدالة والتنمية" إلى السلطة أو بعده، ولعل مقتل "بويراز" خير دليل على ذلك، فضلا عن أن عدم محاكمة قاتلها بالتبعية سيجعل من السهل رؤية عملياتٍ وجرائم مشابهة في المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة