ليس من قبيل المبالغة القول بأن جو بايدن هو أكثر الرؤساء الأمريكيين معرفة بالشؤون الدولية عند توليه الحُكم.
وذلك بحُكم عضويته الطويلة في مجلس الشيوخ ورئاسته للجنة العلاقات الخارجية به، وتولِّيه مهام نائب الرئيس في فترة أوباما، وقد أتاحت له هذه المناصب زيارة العديد من عواصم العالم المؤثرة، ولقاء شخصيات نافذة فيها.
ومع ذلك، فإن زيارته إلى أوروبا، التي بدأت الخميس 10 يونيو 2021، تُمثّل أهمية خاصة واختبارًا لقدرته على تنفيذ التعهدات، التي التزم بها في مجال السياسة الخارجية، خصوصًا أنها أول رحلة خارجية يقوم بها منذ تولِّيه الرئاسة في 20 يناير الماضي.
وخلافًا للرئيس ترامب، الذي شملت أول رحلة خارجية له الفاتيكان والسعودية وإسرائيل، فإن "بايدن" اتجه إلى لندن وبروكسل وجنيف.
لقد كان الالتزام الرئيسي لـ"بايدن" في مجال السياسة الخارجية هو "عودة أمريكا إلى العالم"، وتعهُّده بإعادة وحدة التحالف الغربي والثقة والتضامن بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وإزالة التوترات التي نشأت في عهد "ترامب"، وإحياء الالتزام الأمريكي بحلف الأطلنطي، وتأكيد قدرة الديمقراطيات الغربية على الفوز في التنافس مع النُظُم الأوتوقراطية في ظروف العالم المضطربة.
المحطة الأولى في رحلة "بايدن" كانت لندن، وفيها التقى قادة دول مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، وشمل جدول أعمالها موضوعات مهمة سبق طرحها لسنوات دون الوصول إلى توافق بينها، لعل أهمها فرضُ ضريبة على الشركات العملاقة العابرة للحدود، والتي تنتشر مصانعها وفروعها في أكثر من مكان، وتستفيد من الملاذات الضريبية لئلا تدفع ضرائب عن أنشطتها لأي دولة، ومن بينها شركة "أمازون" العملاقة، التي لم تدفع دولارًا واحدًا عن أنشطتها في العالم خلال عام 2019، مع أن أرباحها الصافية عن الربع الثالث من ذلك العام تجاوزت 2 مليار دولار.
لذلك اتفقت المجموعة على فرض ضريبة عالمية قدرها 15% على هذه الشركات، وهو اتفاق تاريخي بكُل المعايير، سوف تكون له تأثيراته على العلاقة بين دول العالم وتلك الشركات العملاقة.
ومن المرجح أن يبحث "بايدن" مع الحلفاء الأوروبيين الموقف تجاه الصين، وإقناعهم بمساندة أمريكا، التي تتخوّف من الطموحات الصينية المتزايدة، فيما تبدو أهمية هذا الأمر في ضوء توقيع الاتحاد الأوروبي اتفاقية شراكة مع الصين.
وفي لندن أيضًا، يلتقي "بايدن" رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وكذلك الملكة إليزابيث، في أول لقاء لها مع قيادة أجنبية منذ وفاة زوجها في إبريل الماضي.
وفي بروكسل -المحطة الثانية- يُشارك "بايدن" في قمة الدول الأعضاء بحلف الأطلنطي، والتي مهَّد لها بخطابٍ أكد فيه التزام بلاده بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تُعتبر العمود الفقري للتحالف العسكري، وتنص على أن أي اعتداء على دولة من دول الحلف يُمثِّل اعتداءً على جميع أعضائه، بما في ذلك -حسب قوله- "الهجمات الإلكترونية على بنيتنا التحتية الحيوية".
لقد أراد "بايدن" بهذا الخطاب طمأنة الحلفاء الأوروبيين بالتزام إدارته بالدور، الذي يقوم به الحلف، ومُخاطبة شكوكهم وهواجسهم تجاه واشنطن، والتي نشأت خلال فترة "ترامب"، وكذلك الهواجس الأُخرى التي ترتبت على الكشف عن قيام وكالة المخابرات المركزية بالتجسس على القادة الأوروبيين.
وعلى هامش الاجتماع، سوف يلتقي "بايدن" الرئيس التركي أردوغان، بعد اعتراف الرئاسة الأمريكية بمذابح الأرمن في تركيا خلال الحرب العالمية الأولى عام 1915، وتراكُم المشكلات بين البلدين.
ثُم يُنهي "بايدن" زيارة جنيف بعقد اجتماع مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، 16 يونيو الجاري.
ويُلاحَظ أنه تم تحديد تاريخ لقاء "بايدن-بوتين" في نهاية الجولة، ليعطي "بايدن" الانطباع بأن أمريكا تتحدث باسم العالم الغربي كله، وتتفاوض مع روسيا من موقع القوة.
يأتي هذا اللقاء بعد اتِّهام واشنطن لموسكو بـ"التدخل في شؤونها الداخلية وانتهاك حقوق الإنسان"، و"التستر على عصابات الجرائم الإلكترونية، التي تهاجم أهدافًا اقتصادية أمريكية للإتاوة"، وكان أحدثها الهجوم على خطوط أنابيب شركة "كولونيال" في تكساس، ما أدى إلى فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا.
ويبدو أن استراتيجية "بايدن" تجاه روسيا، بحسب تصريحاته وأحاديث وزير خارجيته، ذات طابع مُزدوَج، فهي من ناحية تسعى إلى التعاون في المجالات التي تتفق فيها مصالح البلدين كقضايا التغير المناخي، والاستقرار الاستراتيجي العالمي، ومراقبة التسلح، وأنها لا تسعى إلى توسيع دائرة النزاع بين البلدين، ومن ناحية أخرى تؤكد أن واشنطن سوف ترد بحزم على أي "تجاوزات" روسية.
ففي إبريل الماضي، اتصل "بايدن" تليفونيًّا بالرئيس الروسي، وها هو يلتقي به هذا الأسبوع وينقل له وجهًا لوجه تصوَّره للعلاقات بين البلدين، ولإقناعه بأن الاستقرار العالمي يتطلب التعاون بينهما، وأنه راغب في ذلك في إطار مبدأ "المعاملة بالمثل"
وإذا كانت أوروبا هي ساحة رحلة "بايدن" الأولى، فإن رسالتها موجهة إلى العالم كله برجوع الدور الأمريكي النشط في قضايا العالم وأزماته، وعودة أمريكا إلى ممارسة مكانتها القيادية للدول الغربية، وهي مهمة ليست سهلة، خصوصًا مع مخاوف الأوروبيين من عدم استمرار هذا الدور إذا ما وصل رئيس آخر إلى سدة الحكم في أمريكا، لأن تكلفة هذا الاستمرار تفوق قدرات الاقتصاد الأمريكي الراهنة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة