بعد عشرة أيام من انتهاء أول رحلة خارجية للرئيس بايدن في يونيو 2021، تتالت التعليقات وردود الفعل على الاجتماعات التي شارك فيها وما نتج عنها من تفاهُمات.
تضمنت رحلة الرئيس الأمريكي مباحثات ثُنائية مع رئيس الوزراء البريطاني، وتوقيع اتفاق جديد باسم "ميثاق الأطلنطي" بدلاً من الاتفاق الذي حمل نفس الاسم ووُقِّع في 14 أغسطس 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية، واجتماع قمة الدول الصناعية السبع، واجتماع قمة دول حلف الأطلنطي ثم قمة الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي. وكان الختام هو اللقاء مع الرئيس بوتين في 16 يونيو.
تنوعت ردود الفعل الرسمية والتحليلات الإعلامية حول حصاد هذه الرحلة فكان هناك اتفاق عام على نجاح بايدن في إحياء عُرى التحالف العسكري الأطلنطي، وتجديد التزام أمريكا به بعد سنوات من الشك والريبة في موقفها، وهي سنوات الرئيس ترامب. ظهر حماس رئاسي أمريكي لإحياء هذا الدور وترحيب أوروبي به مع بعض الشكوك حول مدى استمراريته إذا ما انتقلت دفة الحُكم في أمريكا من رئيس لآخر.
وظهر تفاهُم مماثل بشأن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وانتهاء سياسة الحرب التجارية والضغوط الاقتصادية، والتركيز على المصالح المشتركة في مواجهة كل من روسيا والصين.
وبذلك، فعندما التقى بايدن بالرئيس الروسي، فإنه بدى في صورة المتحدث باسم المعسكر الغربي عسكرياً وسياسياً. وبالتأكيد، فإنه لم يكُن مصادفة أنه في صباح يوم اللقاء أن أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً يدين فيه "حملات التضليل الروسية" مؤكداً على ضرورة رفع القُدرات الدفاعية السيبرانية لدوله.
أثمر اللقاء بين الزعيمين عن الاتفاق على عودة سفيريْ كل منهما إلى عاصمة الدولة الأخرى، وصدر بيان مشترك أشار إلى أنه حتى في الأوقات الصعبة فيمكن للبلدين إحراز التقدم بشأن الأهداف المشتركة كالاستقرار والقدرة على التوقع في المجال الاستراتيجي، وتقليل مخاطر الصراعات المسلحة والحروب النووية، وهو ما أكده اتفاقهما على مد العمل باتفاقية "ستارت". واتفق الطرفان على البدء في حوار لتحقيق الاستقرار الاستراتيجي.
وتوقف المحللون أمام ما ناقشه اجتماع الرئيسين الذي استمر زهاء الثلاث ساعات والنصف، والملفات التي تم مناقشتها، والتفاهمات التي وصلا إليها، وعما إذا كان قد تم الإعلان عنها جميعاً أم لا. ففي السياسة بين الدول لا يتم الإعلان عن كل ما تم مناقشته والاتفاق عليه.
كان من الآراء المثيرة للجدل تسمية المفكر الفرنسي تييري ميسان الاجتماع بـ "يالطا 2". وهي إشارة إلى مؤتمر يالطا الذي انعقد في مدينة سوفييتية على سواحل البحر الأسود في فبراير 1945 والذي شارك فيه قادة أمريكا والاتحاد السوفييتي وبريطانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية بهدف تقسيم مناطق النفوذ في أوروبا.
ويرى هذا المؤلف أنه بعد أن أخفقت أمريكا في إدارة العالم بشكلٍ منفرد، فإنها تسعى للتوافق على قواعد اللعبة الدولية مع موسكو في السنوات القادمة، خاصةً بعد انتهاء التوجهات الأيديولوجية لروسيا واتِّباعها لسياسة خارجية براجماتية بالأساس. وأنها تسعى أيضاً إلى دق "إسفينٍ" بين روسيا والصين.
وفي تقديري، فإن أي مقارنة بين قمتيْ يالطا 1945 وجينيف 2021 غير موفقة. ففي الأولى، كان الاجتماع بين دول حليفة خاضت حرباً مشتركة أحرزت فيها النصر على دول المِحور. أما الثانية، فإنها حدثت في وقت انحدرت فيه العلاقات الروسية الأمريكية إلى أدنى مستوى لها من سنوات.
والأقرب إلى الصواب هو مقارنتها مع قمة جلاسبورو التي عُقدت في يونيو 1967 بين الرئيس الأمريكي جونسون ورئيس الوزراء السوفيتي إليكسي كوسيجين في مدينة جلاسبورو بولاية نيو جيرسي الأمريكية والتي انعقدت لتخفيف التوتر بين الدولتين في أعقاب المواجهة بينهما بسبب حرب 1967 والدعوة إلى جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث الموقف الخطير في الشرق الأوسط بعد احتلال إسرائيل لمساحات كبيرة من الأراضي المصرية والسورية والأردنية-الفلسطينية.
من الأرجح، أن ما حدث في جينيف كان سعي كل طرف لاستكشاف نوايا الطرف الآخر وحدوده والبحث عن سُبل لمنع تدهور العلاقات أو المواجهة بينهما في مناطق التوتر كأوكرانيا وسوريا وغيرهما، والحيلولة دون الدخول في سباق تسلح جديد.
لم تكُن الصين بعيدة عما حدث، وأصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً في 13 يونيو وجهت فيه انتقادات شديدة لاجتماع الدول الصناعية السبع وأن زمان انفراد عدد قليل من الدول بتقرير مصير العالم قد انتهى، وأن مستقبله لم يعُد مرهوناً بقراراتها.
وحذَّرت الدبلوماسية الأمريكية من محاولة زرع خِلاف بين موسكو وبكين مؤكدةً أن هذه المحاولات سوف تبوء بالفشل لا محالة.
أما المستشارة الألمانية ميركل فقد انتهزت انعقاد قمة بايدن-بوتين لدعوة دول الاتحاد الأوروبي إلى بدء مباحثات مع روسيا لمناقشة القضايا الاقتصادية والأمنية العالقة بين الطرفين. فطالما قامت أمريكا بذلك، فإن أوروبا يُمكنها أن تحذو حذوها.
سوف تستمر التحليلات والتوقعات بشأن مستقبل العلاقات بين واشنطن وموسكو. والعبرة في النهاية بمدى تطبيق الطرفين للتفاهمات بينهما. والبوادر ليست مشجعة دائماً، وتكفي الإشارة إلى ما تردد عن نية أمريكا توقيع عقوبات جديدة على روسيا، وتحذير موسكو من اتخاذ مثل هذا الإجراء.
فدعونا ننتظر ما سوف تُسفر عنه الأحداث.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة