مفاعيل استعادة الدولة التونسية لكيانها من مخاطر الانزلاق، الذي كانت تهيئ له حركة "النهضة" الإخوانية، لا تتوقف ضمن حدود تونس.
بل إن هذه المفاعيل تتعداها بالنظر إلى عوامل عدة، مرتبطة بالإخفاقات والفشل المتواتر لأذرع تنظيم الإخوان المسلمين عموما من جانب، والمنظومة الأيديولوجية للتنظيم، التي باتت مرفوضة من حواملها الاجتماعية من جانب آخر، خاصة ذهنية إشعال الحرائق في البلدان، التي ينشط داخلها أعضاء التنظيم.
في أكثر من محاولة للاستيلاء على السلطة في هذا البلد أو ذاك أساءت التنظيمات الإخوانية إلى قيم الإسلام الحنيف، امتهنت القتل والاغتيال وسلكت دروب الفساد، ولم تُقِم وزناً للأوطان التي تنتمي إليها ولا لمصالح مجتمعاتها، ولم تتردد في الإفصاح عن ارتهانها لجهات خارجية، بعضها يعادي بلدانها، طالما أن الارتهان يلبي نزعتها ويحقق هدفها بالاستيلاء على السلطة، بصرف النظر عن الخراب، الذي تتركه في جسد المجتمع والدولة، وفي جميع البلدان التي عاثت فيها حركات تنظيم الإخوان فسادا، فتحت ثغراتٍ في جدرانها لرعاتها الخارجيين، من مصر إلى تونس إلى سوريا إلى ليبيا، ومكنتها في بعض الظروف من احتلال أجزاء من أرضها، كما هو الحال في الواقعين السوري والليبي.
مع ركوب أذرع التنظيم موجة ما يسمى "الربيع العربي" في عدد من البلدان العربية، في تونس ومصر وسوريا وليبيا، بدا الخراب الهائل، الذي أحدثته في تفاصيل حياة تلك البلدان وشعوبها ومكوناتها الاجتماعية جلياً للعيان، وبقدر تعريته للطبيعة الإجرامية التي تقوم عليها فلسفة تنظيم الإخوان المسلمين، فإن مشهد الخراب ولّد ردات فعل غاضبة ورافضة لسلوكياتهم وأساليبهم حتى في حواضنه التي اكتشفت أنها ضحية لأيديولوجيته المزيفة، ترافق ذلك مع تنصل حواضن التنظيم الخارجية من رعايته وتراجع الدعم لحركاته التخريبية بعد أن أيقنت أن هذا التنظيم آيل للأفول بفعل ممارساته ورفض المجتمعات له.
وإذا كان النموذج المصري في التصدي لإرهاب تنظيم الإخوان منذ نشأته الأولى قبل ما يقارب التسعين عاما، وصولا إلى هذه الأيام، هادياً للآخرين ومرتكزاً لمواجهته في أكثر من مكان، فإن الحدث التونسي ينطوي على مؤشرات ودلالات هامة على المستوى المحلي التونسي، وعلى المستوى الأعم المتعلق بتنظيم الإخوان وخلاياه وحواضنه في الخارج.
تونسياً، تطوي الدولة صفحة هذا التنظيم، وعنوانها "حركة النهضة"، بكثير من الحكمة المرتكزة إلى نصوص القوانين الناظمة للدولة وللمجتمع، واستناداً إلى دستور البلاد، الذي يشكل الفيصل في تبيان الحقوق والواجبات.
ومن الأهمية بمكان النظر إلى الواقع التونسي الراهن على الصعيدين الشعبي والحزبي أيضا، حيث عبّرا عن مواقفهما، كل بطريقته وبأسلوبه، تماهياً مع الموقف الرسمي للدولة ببعديه، الأول الرامي إلى وضع حد لممارسات حركة "النهضة"، والثاني الهادف إلى إعادة التوازن إلى ساحة الفعل الوطني سياسيا وحزبيا أمام جميع القوى والتيارات.
دعم الشارع التونسي قرارات الرئيس قيس سعيد يمثّل استكمالا لانتفاضته ضد حركة "النهضة"، التي بدأها قبل فترة، ومواقف الأحزاب التونسية، التي أطلقتها تعبيراً عن استعدادها للمشاركة في صياغة تونس الجديدة، ترسم ملامح جدية للانتقال إلى حالة من التفاعل الداخلي الحزبي والحكومي والشعبي تتجاوز الندبات التي خلّفها نهج حركة "النهضة" الإخوانية في عموم الجسد التونسي، ولربما كان أكثر المواقف دلالة على انفضاض جمهورها عنها هو عدم استجابة مؤيديها لدعوة رئيس الحركة، راشد الغنوشي، لدعمه ولمساندته أمام البرلمان وفي الساحات.
ما الارتدادات المتوقعة على حركات تنظيم الإخوان خارجيا؟
من الواضح أن سقوط حركة "النهضة"، الذراع التونسية للتنظيم، يعتبر منعطفا حاسما في مسيرته لأسباب متعددة، منها أن "النهضة" تسلمت السلطة في تونس سنوات عدة، ومارستها لكنها فشلت في إدارة شؤون البلاد والعباد، ورافق فشلها تدهورٌ ملموس لاقتصاد تونس وموجات عنف وتوترات حزبية ومجتمعية، وارتفع مستوى البطالة بين الشباب التونسي، وأضرّت بفعل سياستها بعلاقات تونس الخارجية مع محيطيه العربي والدولي، وهي وقائع لا تختلف عما أحدثه تنظيم الإخوان في مصر إبان فترة حكمه لفترة قصيرة قبل نحو ثماني سنوات.
هذا التماثل بين التجربتين الفاشلتين يحسم الجدل بشأن مستقبل هذا التنظيم، حيث قدمت التجربتان المصرية والتونسية، في ظل حكم الإخوان، الدلائل على إفلاسه وعجزه، وهو في السلطة، عن بلورة صيغة وطنية جامعة من جهة، وعلى دوره التخريبي فقط، كما حصل أيضا في سوريا وليبيا من جهة أخرى، وكلها عوامل لا بد من أخذها بعين الاعتبار كي يتسنى معرفة هشاشة هذا التنظيم وفكره، واغترابه عن المجتمعات الإسلامية والعربية، أما تجربة حكمهم في السودان فقد كانت خليطاً من كل ما سبق من الفشل والتخريب.
ليس من شك في أن كسر المشروع الإخواني في تونس، بعد هزيمته في السودان ومصر، سينعكس إيجابا على سوريا وليبيا مستقبلا، وسيشكل بالمقابل هزيمة للمشروع الإخواني ولمشاريع الإسلام السياسي برمتها مهما تغيرت تسمياتها وتنوعت مظاهرها، والمعادلة التي أرسى حدودها الحدث التونسي تستوجب التنبه والحذر إزاء ما يمكن أن تلجأ إليه مجاميع تنظيم الإخوان وداعميهم في الخارج من أعمال تخريبية وإرهابية تنفذها أدواتهم في داخل البلاد، فالحدث التونسي جولة في سياق جولات لا بد من مواصلة خوضها قانونيا ودستوريا لتحصينها ولقطع الطريق على فلول تنظيم الإخوان من تنظيمي "داعش" و"القاعدة" الإرهابيين، ومن الخلايا النائمة التابعة له في الداخل من العبث بالأمن والاستقرار.
أبرز الدلائل عمقاً في الحدث التونسي هو أن حركة "النهضة" الإخوانية سقطت بالتجربة، وهُزمت اجتماعيا، ولا بد من استثمار ذلك وطنيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة