إلهام.. جزائرية تتحدى نظرة مجتمع بمحل "الكسرة والمحاجب"
كثيرة هي قصص المرأة في مختلف مناطق العالم، والتي تروى غالباً في عيدها العالمي يوم 8 مارس/آذار من كل عام.
قصص تحمل في تفاصيلها غالباً، تحديات أو صعوبات أو آلام وآمال، وكذا نجاح أو فشل، وهي القصص ذاتها المليئة في المجتمع الجزائري سواء عبر تاريخه الثوري، أو حاضره المليء بالتحديات والصعوبات وحتى التناقضات.
- اليمن الأخطر على المرأة في العالم.. الحوثي "يئد" النساء أحياء
- ياقوتة.. عرض مسرحي يدافع عن قضايا المرأة وينتصر لقيم الجمال
وللمرأة مكانة خاصة في المجتمع الجزائري، بل في تاريخه، فقد كانت مناضلة منذ مئات السنين من أجل الأرض، وسندا قوياً للرجل، في حالات الحرب والسلم، و"عمودا فقرياً" لعائلات في الفلاحة لقهر قسوة الأرض والطبيعة والطقس، "وحياةً" للأبناء والأزواج بمهن وحرف ووظائف، وكربات بيوت، وإن كانت قوة تحمل المرأة العاملة خارج المنزل مضاعفة عن غير العاملة، وإن كانت أيضا مسؤوليات المرأة تحتاج إلى قوة تحمل رهيبة "لا تقدر عليها إلا المرأة" باعتراف دراسات علمية.
ولأنها قصص كثيرة جدا في المجتمع الجزائري، فقد كانت "إلهام" نموذجاً معبرا عن تحدي المرأة الجزائرية، ليس بالضرورة لظروفها الاجتماعية، بل حتى لنظرة مجتمعها، وحتى لـ"أمراض" قد تسببها حرفة أو مهنة يرى فيها البعض بالمجتمع الجزائري على أنها "مجرد طهي وأموال".
"الكسرة" و"المحاجب".. قصة إلهام
لم يكن ذلك تعبيرا إنشائياً أو رأياً خاصاً، بل معلومة كشفت عنها السيدة إلهام في حديثها لـ"العين الإخبارية".
"العين الإخبارية" صادفت محلا لصناعة الخبز التقليدي الجزائري، تديره سيدة بقلب العاصمة الجزائرية، لكن في شارع فرعي تقل فيه الحركة التجارية، ومع ذلك له زبائنه من المارة أو الدائمون.
السيدة "إلهام" قد تبدو قصتها عادية عند المرور من المحل، لكن عند التوقف عنده والحديث معها، تتكشف قصة "فيها ما فيها" من "الذي لم تقله" أكثر "مما قالته".
"العين الإخبارية" كانت ضيفاً مرحباً به في محل السيدة الجزائرية، وكأننا دخلنا مطبخاً لعائلة جزائرية، وليس لمحل بيع الخبز التقليدي الجزائري.
السيدة إلهام متزوجة وأم لطفلين، وتحمل شهادة جامعية، لا تعمل لوحدها في المحل، بل مساعدة رفضت الحديث أو الظهور لأن "زوجها يرفض ذلك" أو كما قالت لنا بلهجة أهل عاصمة الجزائر "مولي بيتي لا يحب"، حتى إنها رفضت تصوير "يديها" وهي تحضر أكلة "المجاجب" من منطلق احترام وتقدير رأي زوجها.
عند دخولنا إلى محل السيدة "إلهام" وجدناها ومساعدتها منهمكيْن في تحضير أكلات تقليدية، "إلهام" في "الكسرة"، ومساعدتها في "المحاجب".
كان يوماً مميزا للمرأة، أو عيد المرأة العالمي، لكن السيدة إلهام لم تكن مكترثة بهذا العيد، بل منهمكة في رزقها وإرضاء زبائن المحل.
وفي حديثها مع "العين الإخبارية"، كشفت السيدة "إلهام" عن صدفة "توقيت ومكان"، مرتبطة بتاريخ هذا المحل، إذ كشفت إنه تم فتحه بعد أسبوع واحد من الحراك الشعبي في فبراير/شباط 2019، والذي خرج مناهضاً لترشح الرئيس الأسبق والراحل عبد العزيز بوتفليقة، لولاية خامسة.
هذا التوقيت، أما المكان، فمرتبط بمكان المحل، فهو قريب من "البريد المركزي" وسط العاصمة الجزائرية، وهي المنطقة التي تحولت إلى "أيقونة للحراك الشعبي" في الجزائر لأكثر من عام.
ليس الزمان والمكان فقط من كانا صدفة في محل السيدة إلهام، بل ترى فيه "حراكاً حياتياً من أجل عائلتها"، لم تقل ذلك صراحة لـ"العين الإخبارية" لكن تركيزها على ذلك "أوحى لنا بذلك"، فهي تشبه الأجبال القديمة من المرأة الجزائرية التي "تُضحي من أجل عائلتها قولاً لا فعلاً".
اسم المحل "الخبز التقليدي البريد المركزي"، والمقصود بالخبز التقليدي هو "الكَسْرة" كما تسمى في الجزائر العاصمة، لكن في شرق الجزائر تسمى "الرخساس" أو "الرخسيس".
ليست "الكسرة" فقط من تزين محل إلهام، بل أكلة "المحاجب" التي تعد أكثر أكلة توجد في جميع مناطق الجزائر، ولا "اختلاف على سحر مذاقها"، كما أن سعرها يبقى في متناول الجميع، حتى إن البعض يصفها بـ"أكلة الفقراء"، وهي أيضا مصدر رزق كثير من العائلات في الجزائر العاصمة.
إلهام ومساعدتها تصنعان أيضا "البوراك" و"لمعارك" كما تسمى في العاصمة، ويطلق عليها في مناطق جزائرية أخرى "مسمّسن".
هذا ما وجدناه في محل إلهام، التي أبانت عن شخصية قوية ليس في حديثها مع "العين الإخبارية" بل في تعاملها مع زبائنها، لم تظهر فقط متقنة لعملها، بل حتى في طريقة تعاملها مع زبائنها، بشخصية متواضعة وابتسامة وهدوء وقلة كلام.
"العين الإخبارية" سألتها عن سر هذه الشخصية، إن كانت طريقة تعاملٍ مع الزبائن، أم شخصيتها الحقيقية، فكانت إجابتها أكثر وضوحاً عندما طرحنا عليها سؤالا آخر عن نظرة المجتمع الجزائري لامرأة تعمل في محل لصناعة وبيع أكلات تقليدية.
وقالت: "الحمد لله، ليس لي أي مشكل على الزبائن، الكل يحترمني"، وهنا لفتت إلى سر تلك الشخصية، عندما قالت: "الأمر يعود لطريقة التعامل مع الزبون، عندما تحترم نفسك يحترمك الزبون، وفي أي مجال، سواء هنا في هذا المحل، أو في الإدارة، بل إنه عملي يمتد أحياناً إلى الساعة الـ10 ليلا، ولم أصادف أي مشكل، بل على العكس، الكل يحترمني، واحترم الجميع".
ورغم أنها سيدة أربعينية في عمرها، إلا أن كشفت عن أن هناك من الزبائن من يناديها يَمّا (والدتي) أو خالتي، وتابعت قائلة: "على العكس من ذلك، وجدت كل التشجيع من الزبائن، حتى إن منهم من يقول لي جئت إلى هنا عندما رأيت سيدة بالمحل".
وأكدت على أن المجتمع الجزائري "ليس له نظرة دونية عن عمل المرأة"، وأضافت بأن "كثيرا من الزبائن يقولون لي: تعجبني المرأة التي تعمل بعرق جبينها".
وبين سؤال وسؤال، كانت السيدة إلهام إما منهمكة في تحضير "الكسرة" (خبز تقليدي جزائري)، أو تقاطعنا لخدمة زبائنها، فهي من أنصار "الزبون يبقى الملك"، رغم تأكيدها على احترامها الكبير للإعلام، حتى إنها كانت صريحة جدا عندما طلبت تأجيل المقابلة إلى المساء، لأنها كانت مبرمجة في وقت ذروة العمل، ومع ذلك أبدت احتراماً كبيرا للإعلام عموماً و"العين الإخبارية" تحديدا، في وقت ترفض الكثير من الجزائريات الظهور عبر وسائل الإعلام.
عدنا لها في المساء، لنسألها عن سبب اختيارها صناعة هذه الأكلات التقليدية، وأشارت إلهام في حديثها مع "العين الإخبارية" إلى فتح المحل جاء "بعد دراسة للمشروع انطلاقاً من مكانه، في هذه المنطقة هناك الكثير من الزبائن الذين يرغبون ويبحثون عن الكسرة، كان بإمكاني فتح محل للأكلات السريعة، رغم أن حُلمي كان مطعماً للأكلات التقليدية، لكن هذا المكان لا يتناسب مع ذلك".
وقبل أن نغادر محل السيدة إلهام، تفاجأنا بردة فعل زبون وهو يتذوق "المحاجب"، لم تفهم إلهام ولا نحن إن كان كلامه "مدحاً أو ذماً"، لكن اتضح فيما بعد أن ذلك الزبون من شدة إعجابه بمذاق الأكلة المعشوقة عند الجزائريين.
وقبل أن يدفع ثمن ما أكله قال الزبون لصاحبة المحل إلهام: "معنديش الزهر في المحاجب" (لست محظوظاً في أكلة المحاجب)، لتسأله إلهام: "ألم تعجبك؟".
ويبدو أن ذلك الزبون لم يصدق أنه أحس للمرة الأولى بمذاق هذه الأكلة في محل، بعد أن أجابها: "بلى، هذه المرة الأولى التي أتذوق فيها طعم المحاجب، مذاقها وكأنها مصنوعة في منزل وليس في محل".
دعم عائلي
السيدة إلهام ورغم أنها متزوجة وأم لطفلين، إلا أنها تقضي معظم ساعات يومها في هذا المحل، ليس من أجل التسلية وإلى حد ما ليس من أجل المال، إذ ترى في هذه الحرفة "عشقاً".
ومع ذلك، سألتها "العين الإخبارية" عن مدى تقبل زوجها وأطفالها لأن تكون بعيدة عنهم طوال يوم كامل، لكن نبرة إجابتها كانت مختلفة عن بقية الأسئلة، فقد بدت مرتاحة وواثقة من نفسها، عندما قالت: "هذه المهنة كنت أرى فيها سهلة للغاية، لكنها أصعب مما كنت أتوقع، هذا العمل لا يمكن عمله إلا من منطلق حب أو إتقانه، لأن الأمر مرتبط بصورة تقدم للزبون، الكسرة أو المحاجب يرى الزبون بأنك أنت من تصنعها، لست تجارية، وهدفي أن يكون لي زبائن دائمون، وهذا ما يفرض علي أتقان عملي، وكل من يعمل من منطلق حب فتأكد أنه سيُتقنها، وعملي يبدأ من الثامنة صباحاً إلى الثامنة ليلا، وأحياناً حتى العاشرة ليلا، في عمل يجب أن تكون فيه واقفاً، وكذا الحرارة المرتفعة داخل المحل".
وأضافت: "هناك نظرة نمطية عند البعض، عندما يستهيمون بهذه المهمة، يقولون ما هي الكسرة؟ يرونه عملا سهلا، وهذه المهنة بالذات يمكن أن تصيب صاحبها بمرض التهاب الجيوب الأنفية، حرارة كبيرة في الداخل وبرد قارس في الخارج".
وأكدت إلهام على الدعم والتفهم الكبير الذي تلقاه من زوجها وأبنائها، وأشارت إلى ذلك بالقول: "لست هنا من أجل تمضية الوقت أو من أجل التسلية، بل من أجل عائلتي".