نهار الأحد الفائت، تزامنا مع ظهور البابا فرنسيس في شرفة مستشفى جيميلي بروما، كانت الريح تحمل نفحات الخير التي تصلني من الإمارات.
وتمثلت هذه النفحات في طرْد يحمل جوهرة ثمينة من الكتب الصادرة حديثا، تحت عنوان "الإمام والبابا والطريق الصعب.. شهادة على ميلاد وثيقة الأخوة الإنسانية".
صاحب هذا السفر الثمين، وصفه الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بأنه "من ذوي الهمم العالية والإرادة الصالحة الساعية لخير الإنسانية"، فيما أطلق عليه البابا فرنسيس وصف "الابن العزيز".
في هذا الكتاب نحن بصدد رؤية محمد عبد السلام، القاضي المصري الشاب والمستشار الأمين لشيخ الأزهر طوال سنوات، وسردية ما بعد إنسانية لاتساع الروح، وجمال النفس، رؤية تجمع بين إبداع الكلمات وعظمة الأفعال، التي سار عبرها، حتى تُوّجت بوثيقة حتما ستكون نقطة ضوء في عالم متلاطم الأمواج، وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها بابا روما وشيخ الأزهر في "أبو ظبي" في فبراير/شباط عام 2019.
الذين قُدرت لهم متابعة هذا العمل الروحي والفكري الخلاق، حتما تساءلوا: "هل يكرر التاريخ نفسه؟"
مدعاة التساؤل أنه في ذات الأيام، التي كانت فكرة وثيقة الأخوة الإنسانية تختمر في عقل الشاب المصري، الذي قرّبه الإمام الأكبر منه لحُسْن خصاله وسعة أفقه وقدرته على الإبداع، والمُضي بعيدًا عن سياقات الأفكار المُقَوْلبة، كان الشرق الأوسط يحتفل بذكرى مرور ثمانمئة عام على لقاء رجلين في زمن صعب، السلطان الكامل ابن الملك العادل الأيوبي، والقديس فرنسيس الأسيزي، المُتصوّف الإيطالي الشهير، الذي رفض طروحات حروب الفرنجة.
هل ساقت الأقدار المستشار محمد عبد السلام ليطرح رؤيته عن تلك الوثيقة الخلاقة، والتي أعدُّها أهمَّ وثيقة معاصرة بعد "في حاضرات أيامنا" NOSTRA AETATE، الصادرة عن المَجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني؟
الذين قرؤوا سطور الكتاب الثمين بعناية يجدون مصارحة ومصالحة في كلمات المستشار الشاب في أحد لقاءاته التمهيدية مع البابا فرنسيس، وفيه بثّ شجونه الناجمة عن غياب شبه تام لثقافة التسامح واحترام الإنسان لمجرد كونه إنسانا، في الشرق كما في الغرب، ما أغرى كثيرين بممارسة الظلم والعنف والإرهاب.
على أن تلك المشاعر الطيبة والنيات الصادقة لم تكن لتجد طريقها إلى عالم الأفعال الخيّرة والمُغيّرة لو لم يُقدّر وجود شيخ محب للحوار والجوار، يؤمن بالفلسفة القرآنية الخاصة بتعارف الأمم والشعوب، وبابا هَمُّه الأول هو الإنسان وكرامته بعد أن جرى تسليعُه في عالم اليوم.
ولعل الذين لديهم علم من كتاب مسيرة الحوار بين الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وبين العالم الإسلامي، يدركون كيف كان المَجْمع المسكوني الفاتيكاني الثاني هو المقدمة الحقيقية لانطلاق مسيرة الحوار منذ منتصف ستينيات القرن العشرين، وهي مسيرة قد زخَمها ودعمها البابا يوحنا بولس الثاني عام 1986 بلقاء "أسيزي"، الذي جمع ممثلي أديان العالم في يوم صلاة في مدينة المُتصوِّف الإيطالي الشهير.
عبر نحو ثلاثة عقود سارت وفود من الأزهر والفاتيكان، ولو بشكل لا يمثل المأمول بين الجانبين، وكان أن تعثَّر الحوارُ بسبب محاضرة البابا بندكتوس السادس عشر في ألمانيا، من جرّاء بضع كلمات وصفها الراحل الكبير الدكتور علي السمان، رجل الحوار الذي مثل همزة وصل حقيقية يومًا ما بين الأزهر والفاتيكان، بأنها "كانت قليلة الحظ"، وبسببها توقفت مسيرة الحوار.
يكشف المستشار "عبد السلام" سرًّا لم يكن أحد يدركه، وهو أن الشيخ "الطيب"، الرجل الذي له من اسمه حظ ونصيب قولاً وفعلاً، كان صاحب المبادرة والمبادأة الرئيسة في عودة مياه الحوار إلى قنواتها الصافية، فقد اقترح فكرة زيارة البابا فرنسيس في حاضرة الفاتيكان لما وجد به من رغبة حقيقية في إقامة الجسور وهدم الجدران، وقد كانت الفكرة مثيرة لقبول البعض ورفض البعض الآخر، غير أن إرادة الالتقاء والوفاق تجاوزت مخاوف الاختلاف والافتراق.
رجلان وثقا في بعضهما، وهذا يعيدنا إلى التساؤل الفلسفيّ التاريخيّ المثير: مَن يصنع التاريخ.. الرجال أم الأحداث؟
وقد كان الجواب الأخير لبطريرك السياسة الأمريكية الأشهر، هنري كيسنجر، هو أن الرجال هم من يشكلون مسارات ومساقات التاريخ، وهكذا فعل الإمامُ والبابا.
يكشف الكتاب عن الدور التقدمي، الذي قامت ولا تزال تقوم به الدبلوماسية الإماراتية، وبخاصة في ظل القيادة الحكيمة للدولة، فقد رحّب سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، بفكرة زيارة البابا والإمام إلى الإمارات وتوقيع الوثيقة على أرضها، فيما كان راعي الأخوة الإنسانية سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد "أبو ظبي" ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، يستقبل نهار الثالث من فبراير الماضي البابا والإمام في "أبو ظبي" ليعلن للعالم أجمع من أرض التسامح أن السلام على الأرض ممكن وليس مستحيلا، وأن المسرة في قلوب الناس متاحة لمن يعملون بعزم ويفكرون بحزم.
وقد كان صوت اللاهوتي السويسري، الذي رحل عنا مؤخرًا، هانز كنج، يتردّد في أرجاء الإمارات في أيام اللقاء الكبير بمقولته الشهيرة: "لا سلام بين الأمم من غير سلام بين الأديان".
كتاب المستشار "عبد السلام" قطعة نثرية رائعة، وليس سردًا تاريخيًّا -على أهميته القصوى- لوقائع علاقات سوف تبقى مَثارًا للإعجاب عبر التاريخ بين البابا والإمام، وذلك بما فيه من لمسات إنسانية تعيدنا إلى سيرة العظماء الذين مروا عبر التاريخ.
هل أتاكم حديث جِدّو الشيخ وجِدّو البابا؟
هنا تتبدّى اللمسات الإنسانية في سطور الصديق العزيز صاحب هذا العمل البديع، ومنها أنه عشية إحدى زياراته إلى روما في سبيل إعداد هذا العمل الكبير، زار فضيلة الإمام الأكبر أسرته، وتحدث مع أولاد "عبد السلام" بالقول: "سَلّما لي على البابا.. البابا رجل طيب، وأنا بَاحِبُّه وهُوَّ صاحبي، وأنتما لازم تحِبّوه وتسلموا لي عليه".
ثم قال الإمامُ لـ"ياسين"، الابن الأكبر للمستشار: "مين أنا يا ياسين؟"
قال له: "إنت جدّو الشيخ".. فأجابه فضيلة الإمام: "وهو جِدّو البابا".
في الفاتيكان، حين التقى "ياسين" بالبابا قال له: "أنا فرحان إني قابلتك النهارده يا جِدّو البابا، وجِدّو الشيخ يسلّم عليك، وهو بيحِبّك قوي".
وكان رد البابا: "وأنا أيضًا أحبّه كثيرًا".
الشاهد، أن الأجيال، التي يمثلها "ياسين" وأخته "خديجة"، كما روى الأب المستشار، إنما هي جوهر وثيقة الأخوة ودربها نحو المستقبل، وبخاصة في ظل عالم يمور بموجات من التعصب والتطرف، القومية والشوفينية، إلا ما رحم ربك.
ثم ماذا؟
من الصعب الإحاطة بهذا العمل البديع في مقال أو ما شابه، وإن كان للمرء أن يوصي، فلا بد أن يأخذ هذا الكتاب حقه الكامل في التغطيات الإعلامية، وأن يجد طريقه إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فما فيه كفيل بتغيير الكثير من العقول المتحجّرة والقلوب المتكلّسة.
مَنْ نُهنئ: البابا والإمام أم المستشار؟.. الحقيقة أن التهنئة واجبة لكل مَن يطالع سطورًا من نورٍ في كتاب من ذهب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة