يشير الرئيس جو بايدن في العديد من خطاباته إلى التحديات التي تُواجه ديمقراطية أمريكا والعالم، مُعتبراً إياها خطراً ينبغي التصدِّي له.
فعلى المستوى العالمي، يعتقد أن هناك تنافسا محموما بين النُظم الديمقراطية والديكتاتورية في مجال الجدارة والإنجاز، وأن على النُظُم الديمقراطية العمل الجدِّي للفوز في هذه المنافسة.
وعلى المستوى الداخلي، يعتبر ما حدث يوم 6 يناير 2021 من اعتداء واقتحام أنصار "ترامب" على مبنى الكونجرس، مؤشراً على حجم الخطر الذي يحيط بالديمقراطية في أمريكا، وهو المستوى الذي أُركز عليه في هذا المقال.
ويُمكن إرجاع نظرة "بايدن" هذه إلى عُمق الانقسام السياسي والاجتماعي والفكري، الذي تشهده أمريكا تحت وطأة ازدياد التأييد للتيارات اليمينية، التي تحدَّث باسمها وشجعها الرئيس السابق "ترامب".
فالمفروض أن النظام الديمقراطي يقوم على أساس التعاون والتنافس، حيث توجد أُسس له لا يجوز إنكارها أو الخروج عنها، وهي الأُسس التي أنكرها وخرج عنها "ترامب" وأنصاره.
ومن أمثلة ذلك، استمرار تشكيكه في نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020، ووصف ما حدث بأنه "سرقة" قام بها الحزب الديمقراطي.
هذا الاعتقاد يمثل تشكيكاً في المؤسسات التي تُشرف على إدارة الانتخابات وإعلان نتائجها، وهي مؤسسات تتبع حكومات الولايات، ولا سلطة للرئيس أو الهيئات الفيدرالية عليها، وقبول نتائج هذه الانتخابات من الأمور التي لا ينبغي أن تكون محل خلاف، لأن ذلك يُهدِّد الأساس الذي يقوم عليه النظام الأمريكي.
دعَّم من الشعور بالخطر، الذي مثّله "ترامب"، تدخله المباشر لتغيير نتائج فرز الأصوات في ولاية جورجيا، ومحادثته التليفونية -التي سرَّبها أحد أجهزة الأمن الأمريكية خلال فترة تولِّيه الرئاسة- مع الوزير المسؤول عن الانتخابات في الولاية، ومُطالبته إياه بالبحث عن عدد من الأصوات المؤيدة له حتى تتغير نتيجة الولاية لصالحه.
كذلك تدخُّله لدى المجالس التشريعية في الولايات، التي يسيطر عليها الجمهوريون، لحث مجالسها التشريعية على عدم التصديق على نتائج الانتخابات، وأنه ما زال مستمراً في الإشارة إلى موضوع "السرقة" بعد إقرار الكونجرس للنتائج وتولِّي "بايدن" السُلطة في 20 يناير 2021، ما يمثل استمراراً في التشكيك بشرعيته.
زاد الأمر صعوبةً أن قطاعاً واسعاً من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب من الحزب الجمهوري يشارك "ترامب" هذا الاعتقاد، ويشيرون إليه وهُم يستعدون لخوض الانتخابات النصفية في العام المقبل.
فما زال "ترامب" يمسك بقوة على مفاصل الحزب الجمهوري، وما زال المتطلعون إلى الترشح في الانتخابات النصفية القادمة يأملون الحصول على تأييده، وما زال الحزب لا يسمح بأي صوت من داخله يختلف مع "ترامب" أو ينتقده.
وأكبر مثال على ذلك ما حدث مع السيدة ليز تشيني، وهي مُنسقة المجموعة البرلمانية في مجلس النواب وثالث أكثر القيادات الجمهورية نفوذاً فيه، والعضوة المخلصة لمبادئ الحزب الجمهوري على مدى سنوات، وهي ابنة "ديك تشيني"، نائب رئيس الجمهورية الأسبق في عهد الرئيس بوش الابن.
كانت "الجريمة" التي ارتكبتها هذه السيدة أنها انتقدت ما حدث من اعتداء على الكونجرس، وحمَّلت "ترامب" المسؤولية عنه، وعقاباً لها على ذلك، قام أعضاء الحزب الجمهوري في مجلس النواب بعدم تجديد اختيارها كمُنسقة للمجموعة البرلمانية للحزب.
وتكرر الشيء نفسه مع الأعضاء الجمهوريين، الذين كانت لهم آراء مُخالفة لـ"ترامب"، والذين أعلن بعضهم نيته عدم الترشح مرة أخرى بعد الانتقادات والاتهامات التي تعرضوا لها بسبب مواقفهم.
"بايدن" يحكم مجتمعاً منقسماً بكل المعايير، ويظهر ذلك في انقسام مجلس الشيوخ بالنصف تماماً بين الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، إذ يستحوذ كل منهما على 50 مقعداً، وهو الأمر الذي عطَّل إصدار كثير من التشريعات، التي أعلنها "بايدن"، كقانون "من أجل الشعب"، الذي يهدف إلى توسيع خدمات الرعاية الاجتماعية، وقانون "تطوير البنية التحتية"، وذلك لأن تمرير هذه التشريعات يتطلب أغلبية خاصة وتأييد عدد من النواب الجمهوريين لها.
لم يكتف "ترامب" والحزب الجمهوري بذلك، بل قامت المجالس التشريعية في الولايات، التي تسيطر عليها أغلبية من الحزب، بتغيير القوانين المنظمة للانتخابات وإلغاء الحقوق التي وفرها القانون من قبل، مثل عدد الأيام التي يُتاح فيها لبعض الفئات التصويت قبل الموعد الرسمي ليوم الانتخابات، وحق التصويت عبر البريد، ومدته، وأوراق إثبات الشخصية، التي تصاحبها، وغيرها من الإجراءات التي تؤدي إلى انخفاض عدد المصوِّتين.
وهو ما اعتبره الرئيس "بايدن" والحزب الديمقراطي "انقضاضاً على الديمقراطية وارتداداً عن حقوق الناخبين".
ومع أن "بايدن" وعد بالتصدِّي لهذا الاتجاه، وبأن السُلطات الفيدرالية سوف تتدخل، فإن شيئاً من ذلك لم يحدث، فتنظيم الانتخابات هو حق دستوري للولايات، ولا يمكن إصدار قانون اتحادي بهذا الشأن، لأنه يتطلب موافقة الكونجرس، وهذا أمر غير متاح، لذا فإن أمام "بايدن" طريقا طويلا وصعبا لكي يحقق ما يسعى إليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة