أمريكا وإيران.. هل يتجنب الجميع الحرب؟
كل الأطراف الدولية في الأزمة الراهنة لا تريد الحرب، بل إن لديها من الأسباب الداخلية والخارجية ما يجعلها تفضل السلام.
الأزمات الدولية أنواع ولكنها مهما اختلفت فإن جميعها يتضمن احتمالات لاستخدام القوة العسكرية التي قد تكون أحد أدوات التصعيد؛ ولكنها إذا وصلت إلى الحرب فإنها تتجاوز الأزمة إلي حالة أخرى من الصراع الذي له قواعد وقوانين مختلفة للتعامل مع أطراف متناقضة في مصالحها العليا.
وكثيرا ما وضعت جماعة دارسي العلاقات الدولية تسميات للأزمات الدولية فقد يكون الأمر مشابها لموقف سيارتين يسيران في طريق واحد وفي اتجاهين متضادين، الطريق لا يتحمل إلا سيارة واحدة فيه.
التصعيد في هذه الحالة يكون عندما تبدأ كلا السيارتين في زيادة سرعاتهما، بحيث لا يوجد خيار لكل سيارة إلا إما أن تقبل بالصدام الذي يعني تدمير كلا السيارتين ومن فيهما، أو تنحرف عن الطريق إلي أحد كتفيه، ومن ثم تكون في هذه الحالة "دجاجة" جبانة شجعت الطرف الذي فاز علي معاودة الكرة طالما أنه يعرف أن أعصاب الطرف الآخر لا تتحمل المواجهة.
في "أزمة السجين" فإن المتهم مع آخرين في جريمة جزاءها الإعدام، إذا لم يعترف أحد علي من قام بالجريمة فإن جميعهم يحصلون علي البراءة؛ ولكن إذا اعترف أحدهم مع آخر فإنهم يحصلون علي الإعدام.
الخيارات في كل الأحوال مميتة إذا اعترف وإذا لم يعترف لأنه في كل الأحوال لا يعرف ماذا سوف يكون عليه موقف الآخرين.
الحالة في الخليج العربي الآن تجمع ما بين المتناقضات الموجودة في كلا النموذجين، وربما في نماذج أخرى أيضا، فالولايات المتحدة وإيران دخلتا في "مباراة الدجاج"، وكلاهما وضع أقدامه علي جهاز السرعة على الطريق، منتظرا أن يقوم الطرف الآخر بالانحراف.
الحقيقة أن كل الأطراف الدولية في الأزمة الراهنة لا تريد الحرب، بل أن لديها من الأسباب الداخلية والخارجية ما يجعلها تفضل السلام، أو حتي حالة التوتر المحكوم التي كانت قائمة في المنطقة قبل نشوب الأزمة على تحول الأزمة إلي حرب، ولكن هكذا طبيعة الأزمات الدولية فهي عندما تخرج من عقالها يكون من الصعب رجوع الأوضاع إلي ما كانت عليه.
المدهش أن الأزمة ربما بدأت قبل موعدها الرسمي المعنون بإعلان الولايات المتحدة عن خروجها من الاتفاق النووي مع إيران؛ فهي نشبت أولا بسبب التوقيع علي الاتفاق النووي من الأصل، وما دعم تقديرالحالة كان ثانيا التفسير الإيراني للاتفاق والذي صدق علي كل آراء مخالفيه.
فإيران خرجت من الاتفاق بنوع من التقييد لقدراتها النووية وليس إلغائها ومن ثم ظلت جاهزة للانطلاق مرة أخرى، كما ظهر خلال الأزمة الحالية، والأخطر أنه لم يضع قيودا علي القدرات العسكرية الإيرانية والصاروخية تحديدا التي ما لبثت قوتها تتصاعد كما ونوعا، ولا علي سلوكها العسكري في المنطقة في الوقت الذي شرعت من خلال حلفائها وتوابعها للسيطرة، حسب تعبيرات إيرانية صريحة، على العواصم العربية في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
لم يكن الاتفاق النووي وسيلة لتقييد التسلح النووي في المنطقة، فلا ورد فيه نظرة شاملة لكل الدول النووية في المنطقة (إسرائيل في مقدمتها)، ولا لأسلحة الدمار الشامل بأنواعها المختلفة والتي جرى استخدامها في الحرب الأهلية السورية. وما جرى فعليا أن الميلشيات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني انطلقت من عقالها لكي تتحرش وتخضع وتسيطر وتهيمن.
وعندما أعلنت الولايات المتحدة تحت القيادة الجديدة لدونالد ترامب أنها سوف تقوم بإلغاء الاتفاق النووي فإن إيران لم تقم بأي نوع من التهدئة لسلوكها الإقليمي والدولي، بل علي العكس صممت أنها طالما قبلت ببقاء قدراتها النووية علي حالها، فإن ذلك يطلق يدها لكي تقوم بكل ما هو مخالف للأعراف الإقليمية والقواعد الدولية.
وهكذا خرجت الأزمة الكامنة من قمقمها، فمع الخروج الأمريكي من الاتفاق فإن العقوبات الأمريكية عادت فورا، ولوهلة بدا وكأن الولايات المتحدة تريد إعطاء إيران الفرصة لكي تتراجع ولذلك فإن واشنطن أبقت تجاهلها لقرار السماح لثمانية دول باستيراد النفط من إيران، وعندما لم تبد إيران نوعا من حسن النية - بل مالت إلي التصعيد - فإن الولايات المتحدة حصلت علي امتناع هذه الدول عن قبول النفط الإيراني فتضاعفت الأزمة الإقتصادية الإيرانية، ومعها تصاعدت شوكة المحافظين والمتشددين الإيرانيين الذين يرون أن الحرب الآن ربما تكون أفضل لإيران قبل أن تخنقها الأزمة الاقتصادية.
ما جري من تصعيد إيراني بعد ذلك معروف تفاصيلة، فقد بدأ بالتصعيد في حرب اليمن عندما بدأ الحوثيون في التلاعب باتفاق الحديدة، ومن بعده جاء حادث استهداف 4 سفن تجارية بالقرب من المياه الإقليمية الإماراتية باتجاه الساحل الشرقي بالقرب من إمارة الفجيرة، في 12 مايو/ آيار 2019 ومضخات النفط السعودية، ظهر فجأة أن قوة عسكرية "ماليشياوية" صار لديها قدرات صاروخية، وطائرات "درونز"، وارتياطات إرهابية للهجوم علي مطارات مدنية كما حدث في أبها، وتفجير ألغام في ناقلات للتفط في الخليج.
باختصار فإن إيران بدأت في "مباراة للدجاج" كانت قد جربتها من قبل في العراق بين عامي ٢٠٠٧ و ٢٠١١ عندما بدأت في مهاجمة القوات الأمريكية مستخدمة قوات الحشد الشعبي في حرب استنزاف للقوات الأمريكية بلغ عدد ضحاياها ٦٠٠ جندي أمريكي وفقا لتقديرات البنتاجون.
وحتى الآن فإن التصعيد الأمريكي المقابل قام علي انتشار قدرات عسكرية أمريكية بحرية وجوية كان آخرها له طبيعة رمزية لا تزيد عن ١٠٠٠ مقاتل، مع إحكام الخناق علي تصدير النفط الإيراني حتي ولو تطلب ذلك مصالحة أمريكية صينية فيما يتعلق بالحرب الباردة التجارية بين البلدين.
الخطوة القادمة لإيران هي المناورة أولا باستئناف نشاطها النووي وهو ما بدأته بالفعل عن طريق زيادة أعداد أجهزة الطرد المركزي، مع الإبقاء علي مستويات التخصيب عند الحدود التي حددتها الاتفاقية لمدة ٦٠ يوما. وثانيا تفعيل توابعها - الحشد الشعبي وحزب الله والحوثيون - لإحداث أكبر قدر ممكن من الاضطراب في المنطقة. وثالثا تفعيل الحركات الإرهابية للقيام بهجمات في الخليج تهدد الأمن الاقتصادي الدولي.
المسار الذي تسير فيه إيران يقود إلي الحرب التي سوف تهدد عودة الاستقرار في المنطقة، وبناء الدولة الوطنية مرة أخرى في الدول التي عصف بها الربيع العربي المزعوم، كما أنها سوف تضع حركة الإصلاح الواسعة الجارية في العديد من دول المنطقة الرئيسية في خطر بالغ. ومواجهة ذلك لا يكون بقبول الحرب كمسار للأزمة الراهنة ولا القبول بالأمر الواقع حيث لا حرب وإنما خضوع للعدوان الإيراني المستمر.
وفي الحقيقة فإن دول الخليج أمامها خيارات أخري كثيرة تحتاج إلي كثير من المعرفة بالواقع الإيراني القائم علي سيطرة الملالي والقدرات الاقتصادية الإيرانية الهشة، والواقع الإيراني القائم علي تعدد الأعراق والتركيبة الإثنية التي تترجم السلوك الإيراني الداخلي إلي أوجاع إيرانية مستمرة.
أما إحباط القدرات النووية الإيرانية فهي مسألة ذات طبيعة دولية تم التعامل معها من قبل بقدر غير قليل من النجاح قبيل الاتفاق النووي. المسألة في الأول والآخر تحتاج إلي قدر كبير من رباطة الجأش، والاستفادة القصوى من القدرات الخليجية والعربية فرغم كل الادعاءات الإيرانية فإن توازن القوى العسكري والاقتصادي يقع في جانب دول الخليج التي بات عليها أن تقيم معادلة تقوم علي تفادي الحرب من ناحية، وإقامة الردع لإيران من ناحية أخرى بأن من كانت بيوتهم من زجاج لا يقذفون الآخرين بالحجارة!.