جولة ظريف الأوروبية.. حضور باهت لتكريس لعبة "تبادل الأدوار"
المظاهرات التي قوبل بها جواد ظريف في العواصم الإسكندنافية وباريس تشير إلى المستوى الذي وصلت إليه الضغوط التي تواجهها إيران
عاد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى طهران، في 24 أغسطس الجاري، بعد انتهائه من الجولة الأوروبية التي قام بها بداية من 19 من الشهر نفسه وشملت كلا من فنلندا والسويد والنرويج إلى جانب فرنسا، دون أن يحقق نتائج تذكر. وربما يكون القيام بالجولة في حد ذاته هو الهدف الذي سعت إيران إلى تحقيقه منها، دون أن تطمح في إحداث اختراق في المواقف الأوروبية إزاء القضايا الخلافية العالقة معها والخاصة بالاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي فضلا عن الدور الإقليمي.
وبمعنى آخر، فإن إيران حاولت استثمار بداية الجولة وليس نهايتها، لأهداف تتعلق بمواجهتها مع الإجراءات العقابية التي تواصل الولايات المتحدة الأمريكية اتخاذها لدفعها إلى القبول بإجراء مفاوضات للوصول إلى اتفاق مختلف عن الاتفاق الحالي الذي تبدي تحفظات عديدة تجاهه وانسحبت بمقتضاها منه.
- الجالية الإيرانية في النرويج تتظاهر ضد زيارة ظريف لأوسلو
- آلاف الإيرانيين يتظاهرون في السويد وفنلندا ضد زيارة ظريف
وبدت المظاهرات التي قوبل بها جواد ظريف في العواصم الإسكندنافية وباريس مؤشرا على المستوى الذي وصلت إليه الضغوط التي تواجهها إيران خلال الفترة الحالية نتيجة السياسات التي تتبناها والخطوات التصعيدية التي تصر على اتخاذها، لا سيما فيما يتعلق بتهديد أمن الملاحة في منطقة الخليج وتطوير برنامج الصواريخ الباليستية وتخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، فضلا عن تقديم مزيد من الدعم للتنظيمات الإرهابية والمسلحة الموجودة في بعض دول المنطقة.
ويتوازى ذلك مع الإجراءات التي يتخذها النظام الإيراني على الساحة الداخلية، والتي تسببت في ارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وتصاعد حدة الاحتقان على مستوى الشارع، بسبب إخفاق الحكومة في احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية المستفحلة، لا سيما بعد أن وصلت نتائج العقوبات الأمريكية إلى حد تراجع الصادرات النفطية الإيرانية إلى 100 ألف برميل يوميا في شهر يوليو الفائت، بعد أن كانت تبلغ 2.5 مليون برميل قبل فرض العقوبات.
هدفان رئيسيان:
ربما يمكن القول إن إيران حاولت من خلال الجولة الأوروبية التي قام بها ظريف تحقيق هدفين رئيسيين: أولهما، الرد على الإجراءات العقابية الأمريكية خاصة تلك التي تضمنت فرض حظر على جواد ظريف نفسه، بمقتضى الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض عقوبات على المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في 20 يونيو الماضي.
وقد بررت الإدارة الأمريكية هذه الخطوة بأن ظريف يقوم بتنفيذ السياسة المتشددة التي يضعها المرشد، بما يعني أنه أحد الأشخاص المسؤولين عن التداعيات السلبية التي فرضتها تلك السياسات. وقد عبَّر وزير الخزانة الأمريكية ستيفن منوتشين عن هذه السياسة بقوله إن "ظريف ينفذ الأجندة المتهورة للمرشد الأعلى الإيراني وهو الناطق الرسمي باسم النظام في العالم".
وهنا، كان رد فعل إيران سريعا ومباشرا بالتقليل من أهمية النتائج التي يمكن أن يفرضها هذا الحظر والترتيب لجولات دولية يقوم بها وزير الخارجية، بدأها ببعض دول المنطقة مثل الكويت وقطر، وواصلها في الدول الأوروبية، ويتابعها حاليا في القارة الآسيوية بقيامه بزيارات لكل من الصين واليابان وماليزيا.
وبعبارة أخرى، فإن الهدف الأساسي والأهم للزيارة كان دعائيا في المقام الأول، ومفاده تأكيد أن الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على وزير الخارجية لن ينتج مفاعيل على الأرض أو يغير من المعطيات الموجودة، بدليل أن بعض الدول قبلت استقباله، بما فيها حلفاء واشنطن من الدول الأوروبية خاصة فرنسا التي التقى خلال زيارته إليها في 23 أغسطس الجاري الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه قبل يوم واحد من انعقاد قمة مجموعة السبع الكبرى.
وثانيهما، محاولة إقناع الدول الأوروبية باتخاذ مزيد من الإجراءات الكفيلة بتوسيع نطاق التعاملات الثنائية مع إيران، على أساس أن ذلك يمثل البديل الأكثر قبولا من جانب إيران لمواصلة العمل بالاتفاق النووي، بعد أن تراجعت العوائد التي كانت تسعى للحصول عليها منه عقب انسحاب إدارة الرئيس ترامب وإعادة فرض العقوبات الأمريكية.
إذ لا تزال إيران تعد أن مجمل ما قامت به الدول الأوروبية من خطوات في الفترة التالية على الانسحاب الأمريكية لم يلبِ طموحاتها خاصة أن آلية "انستكس" التي تم تفعيلها في هذا الصدد لم تفرض نتائج نوعية يمكن أن تدفع إيران إلى مواصلة العمل بالاتفاق النووي وعدم تخفيض التزاماتها فيه.
عقبات عديدة:
لكن رغم ذلك، فإن هذه الأهداف تبدو قصيرة المدى ولن تتمكن إيران عبرها من تعزيز موقعها أو تحسين شروط التفاوض مع الإدارة الأمريكية في حالة ما إذا اتجهت إلى التفكير في تبني هذا الخيار الذي لا يزال مؤجلا بالنسبة لها لحين استشراف النتائج التي سوف تسفر عنها نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومدى قدرتها على تحمل واستيعاب الضغوط التي تنتجها العقوبات على الصعيد الداخلي.
وثمة أسباب عديدة يمكن أن تفسر ذلك، أهمها أن تعويل إيران على أن الخلافات الأوروبية - الأمريكية في التعامل معها تمنحها مزيدا من حرية الحركة وهامش المناورة لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض التي تشير إلى أن استمرار إيران في تبني السياسة التصعيدية الحالية من شأنه تقليص حدة هذه الخلافات وتعزيز قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على استقطاب دعم كثير من تلك الدول لإجراءاتها العقابية الحالية التي تتخذها ضدها.
أزمة مع بريطانيا:
وقد دفعت الأزمة التي اندلعت بين إيران وبريطانيا الأخيرة إلى الاقتراب تدريجيا من السياسة الأمريكية، حيث قام الحرس الثوري، في 19 يوليو الفائت، باحتجاز إحدى السفن البريطانية ردا على قيام سلطات جبل طارق، بالتعاون مع القوات البريطانية في 4 من الشهر ذاته، باحتجاز سفينة إيران محملة بنحو 2 مليون طن من النفط الخام كانت متوجهة إلى سوريا.
ورغم أن سلطات جبل طارق قامت، في 15 أغسطس الجاري، بالإفراج عن السفينة الإيرانية التي لا تزال تبحر في البحر المتوسط دون أن تتضح وجهتها النهائية بعد، حيث تشير تقارير مختلفة إلى أنها غيَّرت وجهتها من اليونان إلى تركيا، فإن إيران لا تزال تحتجز السفينة البريطانية.
فضلا عن ذلك، فإن إيران لا تزال حريصة على تبني سياسات متشددة في بعض الملفات الثنائية التي تحظى باهتمام خاص من جانب بريطانيا، على غرار ملف المسجونين لديها من مزدوجي الجنسية، وفي مقدمتهم نازانين زاغاري راتكليف الموظفة في مؤسسة تومسون رويترز الخيرية التي تقضي حكما بالسجن لمدة 5 أعوام بتهمة الدعاية ضد النظام وفشلت المساعي البريطانية في إطلاق سراحها شارك فيها بوريس جونسون نفسه رئيس الوزراء الجديد عندما كان وزيرا للخارجية في حكومة تيريزا ماي.
إجراءات استفزازية:
إلى جانب ذلك، فإن الحرس الثوري الإيراني لا يزال مُصرا على مواصلة نهجه المتشدد على أكثر من صعيد. إذ بدا لافتا أن مسؤوليه باتوا يشيرون إلى الدعم القوي الذي تقوم إيران بتقديمه للمليشيات الإرهابية والمسلحة الموجودة في المنطقة. ويتوازى ذلك مع حرص "الباسدران" على مواصلة إجراء تجارب جديدة على الصواريخ الباليستية، كان آخرها التجربة التي قام بإجرائها في 23 أغسطس 2019 في اليوم نفسه الذي زار فيه ظريف باريس.
ويكتسب هذا الملف تحديدا اهتماما خاصا من جانب الدول الأوروبية التي ترى أن إجراء هذه التجارب يتعارض مع قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي رفعت بمقتضاه العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران قبل بداية تطبيق الاتفاق النووي في منتصف يناير 2016.
كما أن هذه الدول لم تعد تتغاضى عن المخاطر التي ينتجها ليس فقط امتلاك إيران مثل هذه الصواريخ، وإنما إمعانها في نقل خبرتها وقدراتها في هذا المجال إلى المليشيات الإرهابية والمسلحة التي تقوم من خلالها بتهديد أمن واستقرار دول الجوار.
تهديدات نووية:
كما أن إيران لم تثبت قدرتها على الانخراط في التزامات دولية صارمة، حيث تواصل في الفترة الحالية تخفيض مستوى التزاماتها النووية. فبعد أن قامت بزيادة كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% إلى أكثر من 300 كيلوجرام، حسب ما ينص الاتفاق النووي، رفعت مستوى التخصيب من 3.67% إلى 4.5%، وتستعد إيران في الوقت الحالي للمرحلة الثالثة من التخفيض التي ربما تركز على زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي خاصة من طراز "آى أر 6"، حيث يقضي الاتفاق الحالي بتشغيل 5060 جهاز طرد مركزي من الطراز الأول فقط "آى أر 1".
ورغم أن ظريف حاول خلال زيارته إلى الدول الأوروبية الأربع الإشارة إلى أن إيران لا تزال حريصة على مواصلة العمل بالاتفاق النووي، حيث قال، في 23 أغسطس الجاري، إنه "إذا ثبت لها أن أوروبا ستبدأ الالتزام بشقها من التعهدات بموجب الاتفاق فستعمد إلى وقف التدابير التي اتخذتها لتفعيل البرنامج النووي"، فإن ذلك يبدو أنه جاء لتقليص حدة الاستياء التي أثارتها تصريحات أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني قبل ذلك بيومين، وقال فيها إن "موافقة إيران على الاتفاق النووي في عام 2015 ربما كانت خطأ لم يكن يجدر ببلاده أن تقع فيه".
هذه التصريحات تشير إلى وجود اتجاه داخل النظام الإيراني بات يدعو إلى الخروج من الاتفاق النووي على غرار الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يعد يراهن بشكل كبير على الجهود التي تبذلها حكومة الرئيس حسن روحاني وفريق التفاوض النووي بقيادة ظريف من أجل تعزيز فرص مواصلة العمل به عبر دعوة الدول الأوروبية إلى رفع مستوى التعاملات الثنائية.
وقد باتت الدول الأوروبية تدرك حدود الدور الذي تقوم به حكومة روحاني وفريق التفاوض النووي، على نحو بات يدفعها إلى عدم إبداء اهتمام كبير بالضغوط التي تمارسها تلك الأطراف لاستمرار إيران في الاتفاق. إذ لا يبدو أن لها دورا في الأساس في تحديد قرار إيران تجاه هذا الملف، بعد أن استغل الحرس الثوري والمحافظون الأصوليون الأزمة لتعزيز دورهم تمهيدا للاستحقاقات السياسية المقبلة التي يسعون من خلالها إلى استعادة سيطرتهم على مراكز صنع القرار وإقصاء المعتدلين منها.
إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن التحركات التي يقوم بها ظريف على الساحة الدولية لم تعد تفرض تأثيرات كبيرة على المواقف الدولية تجاه إيران، خاصة في ظل إصرار الأخيرة على تبني سياسة "تقسيم الأدوار" التي تقوم على محاولة استغلال جولات وزير الخارجية لتقليص حدة التوتر الذي تتسبب فيه الإجراءات التصعيدية التي تتخذها على أكثر من صعيد.
aXA6IDE4LjExOS4xMjIuNjkg جزيرة ام اند امز