هناك شبه إجماع إقليمي ودولي على رفض سياسات إيران العدائية والتدخلية، وتحميلها مسؤولية حالة عدم الاستقرار التي تشهده دول المنطقة
مع تصاعد وتيرة الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية التي تواجه إيران منذ تنفيذ الولايات المتحدة الأمريكية لاستراتيجيتها الخاصة بـ"صفر صادرات النفط" يواجه النظام الإيراني مأزقاً غير مسبوق، أفقده توازنه وجعله يخطئ، كعادته، في تقدير مسار تطورات الأزمة التي يعيشها، وحتى الرهانات التي تصور أنها يمكن أن تخفف من وتيرة الضغوط التي يتعرض لها ثبت أنها "خاسرة" بكل المقاييس، ليس فقط لأن هذه الرهانات تنطوي على تهديد واضح للأمن والسلم الإقليمي والدولي، وإنما أيضاً لأن هناك شبه إجماع إقليمي ودولي على رفض سياسات إيران العدائية والتدخلية، وتحميلها مسؤولية حالة عدم الاستقرار التي تشهدها العديد من دول المنطقة.
بمعنى آخر، فإن الكرة الآن في ملعب إيران، فإما تتصرف كدولة مسؤولة تلتزم بمبادئ القانون الدولي، وبمبادئ حسن الجوار، وإما تواصل سياسة حافة الهاوية، ووقتها لا تلومن إلا نفسها.
أول الرهانات التي تصورت إيران أنها يمكن أن تدفع القوى الكبرى إلى التدخل لتخفيف الضغوط التي تمارس عليها، هي التهديد بعرقلة حركة الملاحة في مياه الخليج العربي، ومن ثم تهديد أمن الطاقة الذي يعد عصب الاقتصاد العالمي، في هذا السياق فإن العديد من المؤشرات والمعطيات تشير بأصابع الاتهام إلى تورطها في العمليات التخريبية التي استهدفت ناقلات النفط في المياه الإقليمية لدولة الإمارات في شهر مايو 2019، وذلك وفقاً لأحدث تقييمات صادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، التي حملت الحرس الثوري المسؤولية المباشرة عن هذه العمليات.
وفي الوقت ذاته فإن مليشيات الحوثي الإرهابية - المدعومة من إيران- أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم بطائرات "درون" مفخخة على محطتي ضخ بترول لشركة "أرامكو" في الرياض بعد ذلك بيومين؛ الأمر الذي يؤكد أن هذه العمليات التخريبية والإرهابية لا يمكن الفصل بينها، وأنها كانت تستهدف إيصال رسالة إلى مستهلكي النفط في العالم بأن أمن الطاقة في خطر، وأن دول المنطقة لا يمكنها تعويض غياب النفط الإيراني. لكن هذا الرهان خسر وفاقم من عزلة إيران، وليس أدل على ذلك من حالة التضامن الدولية الكبيرة مع الإمارات والسعودية، وتأييد دعواتهما الخاصة بضرورة تحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته في الحفاظ على سلامة الملاحة في مياه الخليج العربي، والعمل على تعزيز أمن الطاقة العالمي، وتحذير إيران من مغبة أي ممارسات غير مسؤولة في هذا الشأن.
الرهان الثاني الذي لجأت إليه إيران هو التخلي عن بعض التزاماتها في الاتفاق النووي، وتهديدها بإجراءات إضافية، خلال الأسابيع المقبلة في حال لم تطبق الدول الأخرى التزاماتها، وذلك في محاولة للضغط على حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، ومساومتهم على العمل من أجل الحفاظ على الاتفاق النووي، لكن الرد الأوروبي جاء مخيباً لإيران، حيث وصفت الدول الأوروبية الثلاث في الاتفاق النووي (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) تخلي إيران عن التزاماتها في الاتفاق النووي بـ"الخطوة غير المرحب بها"، داعية إياها لعدم اتخاذ خطوات تصعيدية، بل حذرت من أن الخطوة الإيرانية يمكن أن تؤدي إلى عقوبات غربية جديدة.
الرهان الثالث هو استعراض القوة العسكرية في محاولة لإعطاء الانطباع للعالم بأن إيران قادرة على تنفيذ تهديداتها الخاصة بإغلاق مضيق هرمز، واستهداف مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وهذا ما يفهم من تصريحات قادة الحرس الثوري طيلة شهر مايو 2019 التي تركزت بالأساس على إغلاق مضيق هرمز وعرقلة حركة الملاحة فيه، واستهداف القوات الأمريكية في المنطقة، رداً على العقوبات النفطية الشاملة التي تعرضت لها إيران، لكن هذا الرهان فشل أمام التحركات العسكرية الأمريكية المتسارعة والمكثفة في المنطقة التي بدأت بإرسال سفينة هجومية برمائية وبطاريات صواريخ باتريوت إلى الشرق الأوسط لتعزيز قدرات حاملة طائرات وقاذفات من طراز "بي-52" إلى المنطقة، وانتهت بإعلان الرئيس دونالد ترامب أنه سيرسل نحو 1500 جندي إضافي إلى الشرق الأوسط، وهي التحركات التي شكلت عاملاً حاسماً في ردع إيران، وبعثت إليها برسالة واضحة بأن عليها أن تكف عن سياسات استعراض القوة، لأنها لن تستطيع الصمود أمام طوفان القوة العسكرية الأمريكية، وأن أي محاولة لاستهداف مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها ستكون عواقبها جسيمة، وربما تكون إيران فهمت هذه الرسالة جيداً، وهذا ما يفسر التحول في خطابها السياسي الذي بدأ يميل إلى التهدئة، وأنها لا ترغب في دخول حرب مع الولايات المتحدة الأمريكية.
الرهان الأخير، الذي لجأت إيران إليه، جاء على لسان وزير الخارجية محمد جواد ظريف خلال زيارته للعراق مؤخراً، حيث أشار إلى أن بلاده اقترحت إبرام اتفاقية عدم اعتداء مع الدول الخليجية المجاورة ، كما ترحب بالحوار مع أي من دول الخليج لإيجاد علاقات متوازنة ونظام مبني على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لكن هذه الدعوة - كسابقاتها- ليست جادة ولا تحمل أي مصداقية، لأن خبرة السنوات الماضية تشير إلى تنصل إيران من تعهداتها، وأنها تلجأ إلى دعوات الحوار والتعهد باحترام دول الجوار كلما تعرضت لضغوط دولية أو تهديدات عسكرية حقيقية، ولهذا فإن الدعوة الجديدة التي تأتي في ظل حشد عسكري أمريكي غير مسبوق وفي ظل حالة من الإجماع الدولي على رفض سياسات إيران العدائية، ليست سوى مناورة جديدة أو تكتيك مرحلي تحاول طهران من خلاله الانحناء للعاصفة للخروج من المأزق الكبير الذي تواجهه.
إيران تعيش الآن حالة من الارتباك، فكل رهاناتها ثبت أنها خاسرة، لأنها لم تتخل بعد عن مشروعها الإقليمي في التمدد والسيطرة وتصدير الثورة، غير مدركة أن تطورات البيئتين الإقليمية والدولية غير مواتية لطموحاتها في الهيمنة. وإذا كانت جادة في دعوتها للحوار مع دول الخليج، فعليها أن تقرن ذلك بشواهد حقيقية تدعم الثقة فيها، كالتخلي عن سياساتها العدائية والتوقف عن التدخل في شؤون دول المنطقة، وإيقاف دعمها للمليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية في المنطقة، التي تخوض من خلالها حروب الوكالة في المنطقة. بمعنى آخر، فإن الكرة الآن في ملعب إيران، فإما تتصرف كدولة مسؤولة تلتزم بمبادئ القانون الدولي، وبمبادئ حسن الجوار، وإما تواصل سياسة حافة الهاوية، ووقتها لا تلومن إلا نفسها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة