عدمُ اعتراض طهران على شخصية الكاظمي ينم عن أهداف وغايات لا تفوت، كما يبدو، على رئيس الحكومة العراقية
الفرص المتاحة أمام مصطفى الكاظمي كي يحقق بحكومته الحالية، بعضاً أو كثيراً، مما وعد به داخلياً وخارجياً لا تبدو ضئيلة، ولعل الحامل الرئيسي لهذه الفرص هو ارتكازه إلى بعدين هامين؛ الأول داخلي عكسه توافق الأحزاب والقوى العراقية على شخصه وعلى برنامج عمله الحكومي المقترح، وحصوله على الفرصة الزمنية المناسبة لترجمة ما يمكن ترجمته على أرض الواقع، أما البعد الثاني فهو إقليمي – دولي؛ حين حظي ترشيحه بقبول القوى المؤثرة في الوضع العراقي بشكل مباشر؛ الإقليمية ومن بينها إيران، والقوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن شأن ذلك أن يمنح رئيس الحكومة العراقية قدرةً ومرونةً أكثر لاستثمار هذا التوافق وتوظيفه ضمن برنامج عمله بحيث يعمل على تخفيف حدة التوترات والمناكفات الإقليمية والدولية على أرض العراق، ويزيح عن كاهله إحدى الصعوبات الخارجية التي تستنزف بلاده داخلياً، سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصاديا.
من المهم النظر إلى برنامج حكومة الكاظمي بمجمله كي يتسنى الاستنتاج أنّ البؤر الساخنة الماثلة أمام طريقه في رئاسة الحكومة لا تعني انعدام وجود فرص سانحة أمامه رغم عُسْر المخاض.
عدمُ اعتراض طهران على شخصية الكاظمي ينم عن أهداف وغايات لا تفوت، كما يبدو، على رئيس الحكومة العراقية، أبرزها حاجة طهران لوجود سلطة عراقية تدير شؤون البلاد بما يضمن لها استمرار جني الأرباح من الساحة العراقية إقليميا ودوليا ، وتوفير نافذة لها تمكنها من التحرك والتأثير والمقايضة عبرها وتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية من خلالها ، ولكن هل لدى طهران الاستعداد لاحترام مطالب الحكومة العراقية وتنفيذ برنامجها القائم على تحييد العراق عن الصراعات الإقليمية وغيرها ، وحصر السلاح بيد الدولة العراقية وإيجاد صيغة لحل الميليشيات المسلحة ؟ وهل يمكن لإيران أن تصغي للجانب الرسمي العراقي في مطالبته بوقف التدخل في شؤونه الداخلية ؟ والسؤال الأكثر أهمية : هل ستسمح طهران للكاظمي ببلورة حلول وتفاهمات ترضي الشارع العراقي المنتفض على الفساد والاستبداد وعلى التغول الإيراني في العراق ؟ ..
عدم انتماء الكاظمي لأي حزب وعدم امتلاكه قاعدة حزبية – سياسية ، ينطوي على محاسن بقدر ما ينطوي على نقيضها ، من جانب ؛ قد يمنحه مساحة أوسع للتحرك وفرض رؤاه وبرامجه الإصلاحية المنشودة بعيدا عن ضغوط التيارات والأحزاب في حال استثمر التوافقات الداخلية والخارجية في دعم برنامجه وترجمها إلى حلول مقبولة ، على النقيض ؛ استقلاله سياسياً وحزبياً يمكن أن يشكل عائقا جديا أمامه وأمام مشاريعه الإصلاحية نظرا لقدرة تكتل الأحزاب والقوى الشيعية في البرلمان على عرقلة نهجه في حال أراد العمل بعيدا عن المصالح الضيقة لبعضهم أو أغلبهم ورفض الإملاءات والضغوط الإيرانية عبر وكلائها .
من الطبيعي القول إن الكاظمي لا يملك مفاتيح سحرية لكل مشاكل العراق ، لكن يبدو أن بإمكانه تحويل المسالك الإيجابية للاعبين جميعا إلى مسارات للحلول أو لتهدئة الخواطر والسماح لقافلته الحكومية بالعمل دون معوقات صعبة تعرقلها ، بيد أن ذلك لا يُراد منه التقليل من وعورة درب الكاظمي ؛ فالمنتفضون في الشارع العراقي لا يبدو أنهم في وارد التسليم حتى الآن بما يُطرح عليهم من وعود ومحاولات لإنهاء انتفاضتهم ، والمطالبات من قبل بعض القوى والأحزاب العراقية بخروج القوات الأمريكية من البلاد أحدثت انقساماً على مستوى الأحزاب وعلى مستوى القوى السياسية وعلى صعيد الشارع ، وأثارت تكهنات ومخاوف عديدة بشأن المستقبل ، وهي أصلاً قضية مرتبطة باتفاقيات ومعاهدات بين الجانبين لها ضوابطها وأصولها القانونية الملزمة لكليهما ، وربما تكون قضية الميليشيات المسلحة وسلاحها ، وهي تعُدُّ بالعشرات ولا تخضع لقيادة الدولة العراقية ، من أعقد القضايا التي تواجه الكاظمي برأسيها ؛ الداخلي وامتداده الخارجي حيث تتبع وتأتمر بشكل أو بآخر لطهران.
من المهم النظر إلى برنامج حكومة الكاظمي بمجمله كي يتسنى الاستنتاج أنّ البؤر الساخنة الماثلة أمام طريقه في رئاسة الحكومة لا تعني انعدام وجود فرص سانحة أمامه رغم عُسْر المخاض ، ومع أن الرجل وضع نفسه ، بصفته رئيس حكومة ، أمام تحدّ وجودي سقفه كما أعلنه "عدم السماح بتحويل العراق إلى ساحة للصراع وتصفية الحسابات " فإن المواقف التي طرحها بعد تجاوز حكومته وبرنامج عملها عتبة البرلمان تعكس إدراكاً دقيقاً لجوهر المشاكل التي تعترض سبيل الانتقال بالبلاد إلى شواطئ الاستقرار وقد وضع يده على المفصل الرئيسي المُعطّل لعجلة تحقيق الاستقرار حين شخّص جذر الداء ألا وهو " التدخلات الخارجية " ، الأهم يتلخص في قدرته على تقديم الإجابات على الأسئلة الكبيرة المتعلقة بالحلول العاجلة للوضع الداخلي حيث المتظاهرون ومطالبهم ، والتصدي للتدخلات والأطماع الخارجية الإيرانية ، وتوفير السبل الكفيلة بتحقيق أهدافه السياسية والوطنية على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية .
بحكم موقعه وتاريخه وخصوصيته؛ شكّل العراق محور تجاذبات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين وتقاطعات مصالحهم وتعارضاتها، وقليلة تلك الفترات التي نعم بها بالاستقرار إما بسبب الأطماع الخارجية وتأثيرها على البعد الداخلي من خلال الاستقطابات وتماهي بعض القوى الداخلية مع الخارج أو العكس، أو بفعل الصراعات بين الأحزاب والقوى والتيارات داخله .
حجمُ وطبيعة التحديات التي تواجه العراق داخليا وخارجيا كبيرة، وفكرة الرهان على قوة خارقة ، شخصية أو حزبية ، تعيد البلاد والعباد إلى التوازن والاستقرار ، ظلت فكرةً تداعب أماني العراقيين بعد التجارب والمنعطفات القاسية التي مروا بها منذ عام 2003 وحتى الآن، وقد تنوعت الطروحات والبرامج حيال العراق المنشود وتراكمت بفعل تقلب السياسيين والأحزاب على منصات قيادته ، لكن النوازع الإيديولوجية والحزبية وتغليب مفهوم المحاصصات العرقية والمذهبية أثّرت كثيرا على تلك التوجهات وظلت بعيدة عن إنتاج صيغ سياسية راسخة قابلة للتطور والتطوير الموضوعي بمعنى تداول السلطة ، والذاتي بمعنى تكريس العمل الحزبي خدمة لبرنامج سياسي يفسح المجال أمام إمكانية ممارسة العمل السياسي والحزبي من على رأس السلطة بمنظور وطني عام يأخذ بعين الاعتبار مصالح وهواجس جميع الشركاء في الحكم وخارجه .
ملفات مكدسة على طاولة عمل الكاظمي يرقى بعضها إلى مستوى التحديات القاهرة بسبب تماهي الداخلي مع الخارجي ، وتأثير الخارجي على الشأن الداخلي مباشرة أو من خلال الوكلاء ، وكذلك جائحة كورونا وما لحق باقتصاد البلاد بسببها ، وعودة ظهور خلايا تنظيم داعش الإرهابي مجددا في بعض المناطق ، والفساد المستشري بأوصال وأركان المؤسسات الحكومية ، والتقاطعات الإقليمية والدولية بمستوياتها التكتيكية والاستراتيجية ؛ كلها تتطلب معالجات لم تعد تحتمل المماطلة أو التأجيل ، وربما تكون معالجة تظاهرات الشارع ومطالب المنتفضين هي المدخل الأكثر نجاعة لنجاح خطوات الكاظمي وحكومته باعتبارها نقطة استناد داخلية يمكن البناء عليها لمعالجة قضايا أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة