احتجاجات العراق.. هل هي نهاية الطائفية؟
أدخلت إيران عام ١٩٧٩ نظاماً جديداً للحكم يقوم على أساس الطائفية، لتغيّر ميزان القوى في المنطقة وتضعف الأحزاب العلمانية والليبرالية
بين انتشار أمني مكثف لمليشيات الحشد الموالية لطهران ومسلحين ملثمين يرتدون ملابس سوداء، ومن خلفهم حكومة تتحايل على مطالب المحتجين، ومتظاهرون يرتدون سترات بيضاء تحمل صورهم، كتب عليها باللهجة العراقية "نازل أخذ حقي" يشهد العراق مظاهرات مليونية في بغداد ومدن أخرى.
المظاهرات تنطلق تحت شعار "ثورة الكرامة"، يأتي في مقدمة مطالبها التخلص من النفوذ الإيراني والتنديد بعمليات القتل والاختطاف والاختفاء القسري الذي اتبع في قمع الاحتجاجات التي انطلقت في محافظات عدة مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وتشهد هذه الاحتجاجات تطوراً في مطالبها، فبجانب المطالبة بإقالة رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي يطالب المتظاهرون بحل الحكومة وتغيير النظام السياسي الحاكم وتعطيل العمل بالدستور ومحاكمة من تسبب بقتل المتظاهرين وإيقاف العمل بعملية المحاصصة الطائفية القائمة منذ عام ٢٠٠٣ وتشريعاتها.
احتقان الداخل
ظهرت تلك الدعوات من جديد نتيجة تصاعد الاحتقان الداخلي لدى المواطنين بفضل عدد من العوامل تتبلور في عدم جدية الحكومة في تلبية مطالب المحتجين، خاصة فيما يتعلق بصرف منح البطالة، وعدم رضاهم عن النتائج التي أفضت إليها اللجنة العليا المنوط لها بالتحقيق، في أحداث المظاهرات مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري واعتراضهم على رئيس اللجنة صالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي.
كما جاءت الاستجابات الحكومية فارغة من أي تعهدات بالقيام بأي إصلاحات سياسية مثل تفعيل قرارات حل المليشيات العسكرية الحشد الشعبي وتحجيم نفوذ قوى تحالف الحق، الموالين لإيران، حيث لم تتهم اللجنة أحدا بقتل المتظاهرين على الرغم من أنها تعد جرائم يعاقب عليها الدستور العراقي لسنة 2005 وقانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 وكذلك القوانين الدولية.
وتختلف هذه الاحتجاجات عن مثيلاتها في السابق وتتميز عنها بأنها تقوم على أساس وطني، لم تنسقها جماعة سياسية أو دينية أو حزبية، ولكنها جاءت نتيجة لاحتكار الموالين لإيران للسلطة والحكم وممارستهم الفاسدة، حيث تزايدت الدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتخلص منهم في المناصب كافة.
الحكم على أساس الطائفية
أدخلت إيران في 1979 نظاماً جديداً للحكم يقوم على أساس الطائفية، لتغيّر ميزان القوى في المنطقة. كما أن الديناميكيات السياسية والاجتماعية التي خضع إليها العراق في العقود الأربعة الماضية أدت إلى إضعاف الأحزاب العلمانية والليبرالية. فتركت الساحة للموالين لإيران للتحكم فيها سياسياً من خلال سيطرة موالين لها على مراكز الحكم في البرلمان والحكومة، وعسكرياً من خلال مليشيا "الحشد الشعبي". وعلى الرغم من أنّ هذه المليشيات تخضع من الناحية الفنية لقيادة بغداد منذ عام 2016، فإنها في الواقع تتبع أهواء داعميها في طهران.
وخاضت مليشيات الحشد الشعبي الانتخابات البرلمانية التي أجريت في مايو/أيار 2018 تحت كتلة "الفتح المبين".
وفازت هي وكتلة "سائرون" التي تمثل التيار الصدري بالمرتبة الأولى بـ54 مقعداً، أما الجهة الثانية فهي تحالف "الفتح" الذي يتزعمه هادي العامري ويضم فصائل الحشد الشعبي الذي حلّ ثانياً على مستوى العراق بـ47 مقعداً.
مثلت تلك المقاعد نجاحاً سياسياً كبيراً لوكلاء إيران في العراق، حيث يضم التحالف المستفيدين من أعضاء هذه المليشيات وعائلاتهم. وبالتالي أخذ وكلاء إيران الدور الرئيسي للسيطرة على إدارة الحكم وليس أغلبية المجتمع العراقي. اقتصادياً: عمل وكلاء إيران في العراق على فرض نفوذهم الاقتصادي في العراق بهدف السيطرة على الدولة العراقية والتخفيف من حدة العقوبات الأمريكية.
فبعد تطبيق المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران، عمدت الأخيرة إلى اتباع نهج اقتصادي جديد في العراق يعتمد التوسع في العلاقات الاقتصادية بين البلدين بغية التخفيف من الحصار الأمريكي على إيران، وأصبحت الشركات الإيرانية تقدم 80٪ من الخدمات التقنية والهندسية في العراق.
كما أسس أيضاً وكلاء إيران عدداً من البنوك وشركات عقارية لتحويل الأموال وشراء العقارات من المهجرين بأرخص الأسعار تحت التهديد والتهجير.
وقد تجلى هذا النفوذ في التحويلات المالية التي تمت بين العراق وإيران بعد دخول كتائب حزب الله ووكلاء إيران لمدينة جرف الصخر شمال مدينة بابل أثناء القتال مع تنظيم "داعش"، حيث حولوا المدينة لمركز اقتصادي للحرس الثوري الإيراني، وصارت القبضة المالية والسياسية التي تفرضها إيران على قطاعات كبيرة من الشعب العراقي كبيرة للغاية. ونتيجة لهذا الواقع، فإن الجهود المبذولة لدمج المليشيات التي تدعمها إيران في الجيش العراقي أثبتت عدم فاعليتها.
على ذلك ينظر إلى العراق في الوقت الراهن، باعتباره مجتمعاً يتكوّن من جماعات عرقية وطائفية، وهو ما يجعل فكرة "الهوية العراقية" في موضع شكّ. ففي ظل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي بدأ في عام 2003 أصبحت إيران لاعباً إقليمياً رئيساً في السياسة العراقية، نظراً إلى دعمها للحكومة.
وقد ركّزت مقاربة بناء الأمة في العراق على إيجاد ممثلين طائفيين أكثر من تركيزها على التغلّب على الانقسامات الطائفية. وبما أن الطائفية مستحكمة في القواعد والممارسات الخاصة بالعملية السياسية. إذ أصبحت المؤسّسات إقطاعيات للأحزاب المتصارعة التي تتنافس على السلطة والموارد والمنزلة.
مستقبل الاحتجاجات
يتحدد مستقبل الاحتجاجات على مدى قدرة المحتجين التمسك بمطالبهم لا سيما أن الظرف الدولي يميل لصالحهم، فأغلب دول الإقليم سئمت من التصرفات الإيرانية التي ساقت المنطقة للحروب في العراق واليمن وسوريا ولبنان، فضلاً عن ذلك أن القوى الدولية خاصة الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية ترغب في تحرير العراق من قبضة الإيرانيين والدفع بعملية سياسية جديدة فيه تقوم على أساس وطني وليس طائفياً.
على كل حال يمكن القول إن الشباب العراقي استطاع أن يرمى حجراً في البحيرة الراكدة، ليحرك الوطنية المستقرة في أعماقها نحو عراق جديد تذوب على أطرافه المترامية النزعة الطائفية والسياسية والمناطقية. وربما هذا ما أثار مخاوف "الدولة العميقة" هناك من أن تتوحد الأصوات الشعبية وأن تعود اللحمة إلى النسيج الوطني والاجتماعي على قاعدة المطالب العادلة التي يتجمع العراقيون حولها.