كل هذه المؤشرات تؤكد أن وجود قوى سياسية متنفذة موالية لإيران داخل العراق هو أخطر ما يهدد العقوبات الأمريكية.
منذ فرض العقوبات الأمريكية على إيران، والأخيرة تحاول التخلص من الأثر السلبي لها عن طريق فتح منافذ تكون بمثابة "رئة" لها لمنع انهيار اقتصادها المتداعي، واحتمالات تعرضها لضربة موجعة في قلب اقتصادها، بما يدفع الشعب الإيراني إلى محاولة التخلص من النظام القائم من الداخل.
كل هذه المؤشرات تؤكد أن وجود قوى سياسية متنفذة موالية لإيران داخل العراق هو أخطر ما يهدد العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وأن الخطوة الأولى لتحجيم النفوذ الإيراني ودفعها إلى التراجع عن مخططاتها النووية تأتي من خلال تحجيم نفوذ الأذرع الإيرانية التي تهدد بشكل علني وتؤكد أنها ستقاتل مع إيران
وإيران تدرك جيداً مخاطر العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها، وأثرها على وضعها الداخلي المتهالك، وشعبها الناقم من تبديد ثرواته لدعم مخططات التوسع الإقليمي ودعم حلفاء النظام في بعض الدول العربية، لذلك فهي تبحث عن كسر هذا الطوق الخانق المفروض عليها من خلال استغلال وجود أتباعها في رأس السلطة في بعض البلدان.. وهنا يبرز العراق واحداً من أهم المنافذ التي يمكن لإيران أن تخفف من وطأة هذه العقوبات الخانقة التي يمكن أن تصيبها بالشلل بمرور الوقت.
النفوذ السياسي للإيرانيين في العراق صاحبه نفوذ اقتصادي ربط عصب الحياة في العراق بالصادرات الإيرانية، وتلك استراتيجية عمل عليها الإيرانيون منذ انهيار النظام العراقي السابق عام ٢٠٠٣. وكانت أحد أبرز شروط الابتزاز في العراق -على سبيل المثال- ألا يقوم الوزراء بإعادة بناء المصانع العراقية أو تطوير الكهرباء أو الزراعة وغيرها من مجالات الحياة في العراق لكي يبقى مرتبطاً بإيران إلى درجة الانهيار في حالة التخلي عنها، وتلك أخطر الأدوار التي لعبتها الأحزاب السياسية العراقية الموالية لإيران التي نفذت هذه الأجندة بشكل دقيق تحسباً لمثل هذا اليوم.
بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية وقرارها فرض عقوبات شديدة على النظام الإيراني أحدثت ضرراً كبيراً في الاقتصاد الإيراني. إلا أن هناك ثغرات واضحة في نظام العقوبات أبقت متنفساً للنظام الإيراني، ويعد العراق أحد أبرز تلك الثغرات!
يعتمد العراق على الغاز الإيراني والكهرباء والمنتجات النفطية المكررة والصادرات من غير الطاقة، بما يوفر تدفقات مالية كبيرة وإيرادات للخزينة الإيرانية تخفف من وطأة العقوبات عليها، وليس بإمكان واشنطن فعل الكثير للحد من هذا النفوذ وتقليل اعتماد بغداد على إيران، لأن الضغط عليها للقيام بذلك يهدد بزعزعة استقرار البلد المضطرب سياسياً، خاصة أنه تعافى للتو من احتلال تنظيم داعش الإرهابي للعديد من مدنه.
وليس أمام أمريكا خيار إلا الاستمرار في تمديد الإعفاءات من العقوبات على المشتريات العراقية للكهرباء والغاز الإيرانيين لتزويد مولداته بسبب الحالة السيئة لمنشآت توليد الطاقة في العراق. ورغم أن الولايات المتحدة تطالب الحكومة العراقية بالنأي بنفسها عن الطاقة الإيرانية، فإن المسؤولين العراقيين يقولون إن البحث عن مصادر بديلة قد يستغرق سنوات عدة، وإصلاح البنية التحتية للكهرباء في البلاد يستغرق وقتاً أطول.
في صيف العام الماضي أرادت إيران إيصال رسالة تهديد ضمنية للشعب العراقي عندما أوقفت إمدادات الكهرباء عن العراقيين، ما تركهم يعانون من انقطاع التيار الكهربائي في ذروة موسم الحرارة، وبسببه اندلعت مظاهرات في البصرة، حيث احتج السكان على نقص مياه الشرب والكهرباء والفساد وعدم توفر فرص العمل، وهو ما دفع أتباع النظام الإيراني في الحكومة العراقية إلى الادعاء بأن التوقف عن استيراد الكهرباء من إيران يمكن أن يؤدي إلى انهيار الوضع في البلاد بشكل كامل، فيما لو استمر لفترات طويلة وتلك ذريعة تسوقها الحكومة العراقية إلى واشنطن لإقناعها بضرورة استثناء العراق من العقوبات المفروضة على إيران.
ووفقاً لأرقام دولية، نمت التجارة الثنائية بين العراق وإيران ثلاثة مليارات دولار للفترة من مارس ٢٠١٨ إلى مارس ٢٠١٩ بزيادة سنوية بلغت ٣٦٪، لكن إيران تأمل في رفع التبادل التجاري إلى ٢٠ مليار دولار في السنوات المقبلة. ويرى التجار الإيرانيون أن العراق يمكن أن يكون بديلاً لتوجيه تجارتهم الدولية من خلاله، وهناك سعي لربط شبكات السكك الحديدية بين العراق وإيران كجزء من خطة أوسع لتمكين إيران من نقل بضائعها إلى سوريا وموانئها المتوسطية؟
ومن أجل ضمان عدم تعرض التعاون الاقتصادي لخطر انتهاك العقوبات الأمريكية، ذكرت تقارير دولية أن البلدين قاما بإنشاء نظام للدفع يشبه آليات أوروبا التي أوجدتها للسماح للشركات الأوروبية ممارسة أعمالها التجارية في إيران لأغراض محددة، بينما تشير تقارير إلى أن المحافظين في إيران يضغطون باتجاه الاعتماد على العراق أكثر من الأوروبيين.
ورغم أن واشنطن تراقب عن كثب العلاقات التجارية بين إيران والعراق بسبب مخالفة العقوبات، وعاقبت شركة مقرها بغداد بزعم أنها تقوم بتهريب أسلحة بمئات الملايين من الدولارات إلى المليشيات العراقية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، كما تمت معاقبة بنك في العراق لتورطه في تحويل الأموال لصالح الحرس الثوري الإيراني، إلا أن من الصعوبة وقف هذا التعاون بين البلدين بسبب النفوذ الكبير لتحالف الفتح في العراق والذي يضم كل القوى الموالية لإيران والمليشيات المسلحة التي دخلت العملية السياسية من نوافذ متعددة بقوة السلاح والمال خلال الانتخابات الأخيرة، ولم يتردد متحدث باسم تحالف الفتح عن التنديد بقرار أمريكا فرض عقوبات اقتصادية على الحرس الثوري الإيراني في أبريل الماضي.
ومن هذا المنطلق، فإن الولايات المتحدة تدرك أن إيران ستجنّد حلفاءها في العراق لشن حرب بالوكالة ضد المصالح الأمريكية في حالة تصعيدها الصراع مع النظام الإيراني، خاصة أن المليشيات العراقية استبقت الصراع بإرسال رسائل واضحة عندما أطلقت صواريخ على السفارة الأمريكية في بغداد.
لذلك فإن الرهان الأمريكي والإيراني يبدأ من العراق، حيث يسعى كل طرف إلى استثمار نفوذه لإضعاف خطط الآخر. وعلى الرغم من أن الحكومة العراقية تحاول أن تقف على الحياد في هذا الصراع، فإن الفصائل العراقية الموالية لإيران لن تنتظر أن تتعمق جراح إيران بالمزيد من العقوبات الخانقة، لأنها تدرك أن نهاية النظام الإيراني يعني نهايتها بالكامل.
ولهذا السبب، ستكون هذه الفصائل هي القوة التي تتقدم المواجهة مع الولايات المتحدة وتخوض حرباً أو مواجهة محدودة بالنيابة، لعلها تدفعها إلى التراجع. كما أن تلك الفصائل وخلفها إيران لن تسمح بإعادة السيناريو الذي مر به العراق إبان الحصار الاقتصادي، وسوف تحاول أن تشعل مواجهة بطريقة ما مع الولايات المتحدة في القريب العاجل، لأنها تعتقد أن الخسائر ستكون أقل مما لو ضرب الحصار عصب الحياة في إيران بقوة مع مرور الزمن، وهو ما أكده أحد قيادي تحالف الفتح الموالي لإيران عندما قال "نحن وإيران لن نسمح للولايات المتحدة بأن تواصل حصارها وعقوباتها حتى إضعاف النظام، ولا بد من أن نقوم بعمل يرغم الولايات المتحدة على التراجع، حتى وإن استدعى الأمر البدء بمواجهة عسكرية معها".
كل هذه المؤشرات تؤكد أن وجود قوى سياسية متنفذة موالية لإيران داخل العراق هو أخطر ما يهدد العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وأن الخطوة الأولى لتحجيم النفوذ الإيراني ودفعها إلى التراجع عن مخططاتها النووية تأتي من خلال تحجيم نفوذ الأذرع الإيرانية التي تهدد بشكل علني وتؤكد أنها ستقاتل مع إيران، وتهدد بضرب المصالح الأمريكية في العراق والمنطقة، بينما تلوذ الحكومة العراقية بالصمت إزاء هذه التصريحات، وكأنها راضية عنها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة