هذا الصبر الاستراتيجي جعله يتحمل اتهاماً مزدوجاً يندر أن يتم إلقاؤه على رجل واحد، فهو متهم من إسرائيل بالمراوغة والرفض للسلام
أعرف الرئيس محمود عباس منذ أكثر من 40 سنة، وأتابع بشكل شبه منتظم ما يقول وما يفعل، ونما بيننا على مدار هذه السنين محبة واحترام واتفاق واختلاف في حدود العلاقة الإنسانية المتحضرة.
وعُرف عن أبومازن أنه "براجماتي" و"واقعي" في زمن الرومانسية الثورية في الوقت الذي كانت تسود فيه عبارات "الكفاح الثوري"، و"تحرير الوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر"، وفي زمن غلبت فيه الأيديولوجيا على المنطق، وسادت فيه لغة الخطابة على حقائق الواقع. وفي المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر شاهدت "أبومازن" يفجر -وحده دون سواه- قنبلة الصدمة عقب الخروج الفلسطيني من لبنان بضرورة وجود استراتيجية سلام فلسطينية ويتحدث عن ضرورة منطق الحوار والتفاوض مع "العدو" الإسرائيلي.
ومنذ هذا التاريخ وملف السلام والتفاوض والبحث عن تسوية نهائية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الشغل الشاغل للرجل.
هذا الصبر الاستراتيجي جعله يتحمل اتهاماً مزدوجاً يندر أن يتم إلقاؤه على رجل واحد، فهو متهم من إسرائيل بالمراوغة والرفض للسلام على أساس أنه نصف شريك، ومتهم في الوقت ذاته من "حماس" بأنه يراوغ في النضال من أجل تحقيق ثوابت الشعب الفلسطيني
وفي "أوسلو" 1993 قاد أبومازن المفاوضات الوحيدة التي أدت لتوقيع وتعهد جزئي، وهي مفاوضات "أوسلو"، دون رعاية أمريكية، وبعيداً عن الأصوات الفلسطينية التي تؤمن بمنطق "كل شيء أو لا شيء".
أبومازن يؤمن بمدرسة تقول: إذا لم تهيأ لك الظروف التاريخية وعناصر القوة المحلية والإقليمية والدولية للحصول على "كل" ما تريد، فعليك -عملياً- التفاوض حول "بعض" ما تريد حتى تأتي الفرصة لتكون في مركز يجعلك تحصل على "كل" ما تريد.
مدرسة أبومازن موغلة في الواقعية، موغلة في "اللاشعار" إلى حد مخالف للموروث السياسي الفلسطيني الذي يحمل بداخله أكبر قاموس من المصطلحات النضالية والثورية.
يؤمن أبومازن بأنه لا حل عسكرياً للصراع مع إسرائيل، وأن أكبر خطأ حدث للانتفاضة الفلسطينية هو عسكرتها، وأن أفضل حصار لإسرائيل هو حصار السلام، وأن المستقبل سيكون بالضرورة للشعب الفلسطيني الذي يحمل بداخله قنبلة تكاثر سكاني سوف تتفوق على قلة المواليد الإسرائيلية.
ذاكرة أبومازن حاضرة للغاية، رغم صراعاته مع المرض وتقدم العمر فإنه يمتلك عقلية مدربة وذاكرة نشطة لكونه يكاد يكون السياسي العربي الوحيد الذي يدوّن يومياً في مفكرته الأحداث بالتفاصيل والأرقام.
ابن أبومازن، الأخ ياسر، يصف والده بأنه "رجل لا يعرف اليأس ولديه صبر لا ينفد".
هذا الصبر الاستراتيجي الذي لا ينفد هو الذي أعطاه القدرة الاستثنائية على تحمل 3 حكومات لبنيامين نتنياهو وأخرى لإيهود أولمرت وتحمّل الانقسام مع "حماس"، والضغوط الاقتصادية الإسرائيلية، وجنون إدارة ترامب، وآثار الوضع الإقليمي عليه.
هذا الصبر الاستراتيجي جعله يتحمل اتهاماً مزدوجاً يندر أن يتم إلقاؤه على رجل واحد، فهو متهم من إسرائيل بالمراوغة والرفض للسلام على أساس أنه نصف شريك، ومتهم في الوقت ذاته من "حماس" بأنه يراوغ في النضال من أجل تحقيق ثوابت الشعب الفلسطيني.
ما بين إسرائيل و"حماس" يقع فكر أبومازن، فالإسرائيلي يتهمه بالجمود والتشدد والحمساوي يتهمه بالتنازل والتفريط!
ما بين ثورية "فتح" القديمة وبراجماتية بعض أعضائها يقف الرجل.
وما بين نصف شريك، ونصف الضفة، ونصف السلطة يعاني الرجل.
إنها حالة نادرة في التاريخ لقائد ثورة غير قادر على الحرب، ورئيس سلطة غير قادر على التسوية.
ها هو الرجل وهو يخطو نحو عامه الـ85 (مواليد 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1935)، يتحمل ما لا يطيق بشر منذ يناير/كانون الثاني 2005 حتى الآن.
وها هو الرجل يتحرك من جامعة الدول للتعاون الإسلامي، للاتحاد الفلسطيني ليصل إلى مجلس الأمن الدولي ليواجه تداعيات صفقة القرن.
ها هو الرجل يصبح ضحية فكرة السلام في زمن لم يعد المطروح فيه وثيقة تسوية سلام ولكن وثيقة إذعان الاستسلام.
من هنا كان خطابه الأخير في الجامعة العربية خلاصة مرارات السنين، وعصارة الصبر الاستراتيجي وإعلان نهاية مرحلة.
نقلاً عن " الوطن" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة