الكرك.. تاريخ طويل من الصمود في وجه الطامعين
تاريخ طويل من مواجهة "الكرك" لأعباء الحروب والغزوات منذ القرن الثاني قبل الميلاد، لاعبة دورا محوريا في حماية المدينة من المخاطر المتعاقبة عليها.
"كير مؤاب".."كير حارسه".."كركا" أو "جوهرة الصحراء"، جميعها أسماء تعني المدينة المحصنة أو القلعة، و جميعها أسماء لمدينة الكرك، لازمتها على مدار التاريخ.
ذكر المؤرخ "القلقشندي"، الذي عاش في الفترة من 1355-1410، مدينة الكرك في كتابه "صبح الأعشى في كتابة الإنشاء"، وقال إن "الكرك مدينة محدثة البناء، كانت ديراً يتدبره رهبان، ثم كثروا فكبّروا بناءه، وأوى إليهم من يجاورهم من النصارى، فقامت لهم به أسواق، ودرت معايش، وأوت إليه الفرنج، فأداروا أسواره، فصارت مدينة عظيمة، ثم بنوا فيه قلعة حصينة من أجل المعاقل وأحصنها، وبقي الفرنج مستولين عليه حتى فتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، على يد أخيه العادل أبي بكر" .
تحملت الكرك أعباء حروب وغزوات على مدار تاريخ يمتد من القرن الثاني قبل الميلاد، تعاقب عليها المؤابيون والأشوريون والأنباط واليونان والرومان والبيزنطيون وظلت محصنة صامدة في وجه أطماعهم المتلاحقة.
هاجم الآشوريون مدينة الكرك بقيادة الملك الآشوري "بانيال" عام 646 ق م، ومن بعدها حملات البابليين بقيادة "نبوخذ نصر" الذي عقد معاهدات مع ممالك الشرق لمرور القوافل التجارية في أراضيها، بالإضافة إلى الحملات الفارسية واليونانية، وتم احتلال المدينة من قبل الرومان عام 106 م، وفي عام 130 افتتح الامبراطور "هادريان " طريق النصر الممتد عبر سوريا إلى العقبة مرورا بالكرك.
نتيجة لموقع مدينة الكرك الاستراتيجي، التي تقع على هضبة مثلثة ترتفع 900 م عن مستوى البحر، وتحكمها فى طرق التجارة، فقد حرص الصليبيين على احتلال الكرك عام 1142 م، واقامة إمارة صليبية بقيادة الملك "أرناط"، حتى أن القائد صلاح الدين قام بثلاث حملات لتخليص الكرك من قبضة الصليبيين، وتمكن عام 1188 من السيطرة على المدينة، وتأسيس إمارة الكرك الأيوبية، وعاود الصليبيين غزو الكرك مرة اخرى عام 1229م ، ومكثوا فيها 10 سنوات حتى استطاع" الناصر داود " من طردهم مرة أخرى عام 1239م .
ظلت الكرك فى عهد السلاطين الايوبيين تنعم الطمأنينة والازدهار، حيث قاموا ببناء التحصينات والأبراج وكذلك البوابات للمدينة، حتى تعرضت الكرك إلى غزو المغول لتعاني مرة أخرى، وقد استطاع الظاهر بيبرس احتلال المدينة عام 1263 م، وكانت الكرك مخزناً لمحاصيل السلاطين والمماليك ومرعى لمواشيهم وفي عام 1241 م نقل السلطان أحمد بن قلاوون سلطان المماليك مقر السلطنة من القاهرة الى الكرك .
احتل العثمانيون الكرك فى عام 1516م، وقد عانت الكرك فى عهد الحكم العثماني من التدهور والضعف، وظلت الكرك في القبضة العثمانية حتى قامت الثورة العربية الكبري فى عام 1916 م بقيادة الشريف حسين للتخلص من العثمانيين ، وقد وصل الأمير "عبدالله بن الحسين" إلى "معان" عام 1920 حيث أيدته الكرك وكان أهلها من المستقبلين له، وهكذا أصبحت الكرك إحدى مدن إمارة شرقي الأردن ثم المملكة الأردنية الهاشمية.
من أبرز آثار مدينة الكرك قلعة الكرك تلك القلعة المنيعة التي بناها الصليبيون في القرن الثاني عشر الميلادي على يد الأمير "فولك"، وتقع على هضبة مثلثة مثلثة ترتفع عن سطح البحر 900 مترا، ويبلغ طولها 220 متر، وعرضها 125 مترا من الجهة الشمالية، و 40 متر من الجهة الجنوبية، وتبلغ مساحتها 25,300 متر مربع، وتطل على وادى ضيق عميق المياه.
تم بناء القلعة لتحل محل قلعة قديمة قد بناها المؤابيين فى عام 860 ق م، حيث تدل الشواهد الأثرية على وجود تماثيل نبطية منقوشة فى الأسس الأولي للقلعة، واستمرت القلعة القديمة طوال عهد الرومان والبيزنطيين، ولعبت دوراً هاماً في حماية المدينة من الغزوات والحملات المتعاقبة عليها.
وفي العصر الإسلامي أصبحت درعاً واقياً للدولة الإسلامية وحمايتها من هجمات الصليبيين المتكررة، حيث استطاع صلاح الدين حصار القلعة، وانتزاعها من قبضة الصليبيين بعد معركة حطين الشهيرة، وذلك لأهميتها في التحكم في طرق القوافل التجارية، وكذلك لتأمين طرق الحجاج المتجة إلى مكة فى الجنوب، بالإضافة إلى التحكم في المواصلات بين الحجاز والشام ومصر.
وصف المؤرخ الرحالة "ابن بطوطة" قلعة الكرك في كتابه الشهير" النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" قائلا عنها "هي أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها، ويسمى بحصن الغراب، والوادي يطيف به من جميع جهاته وله بابٌ واحد قد نحت المدخل إليه في الحجر الصلد، ومدخل دهليزه كذلك، وبهذا الحصن يتحصن الملوك، واليه يلجأون في النوائب".
شارك أهالي الكرك في الثورة على الحكم العثماني، وقد شهدت قلعة الكرك عمليات إعدام لأهالي الكرك الذين ثاروا ضد العثمانيين في عام 1910، فقد كان الجنود العثمانيين الذين تمركزوا بالقلعة يطلقون النيران على الأهالي من فوق أسوار القلعة العالية.
نظرا لتاريخ قلعة الكرك الممتد من العهد النبطي في القرن التاسع قبل الميلاد حتي العصر الإسلامي مرورا بالعهد الأشوري والبابلي والروماني والبيزنطي، وأهميتها الأثرية حيث تضم قطع آثرية من كل العصور التاريخية، تم تحويل القلعة في عام 1980 إلى متحف آثري شهد على صمود مدينة الكرك فى وجه الطامعين الغزاة على مر التاريخ .