اعتصام الخرطوم.. سيمفونية تشدو بسماء العدالة والسلام
لقب "كنداكة" برز في احتجاجات السودان وهو يشير إلى صمود وعزة المرأة وقدرتها على المواجهة والتحمل
لا تكاد تدخل ساحة الاعتصام أمام مقر قيادة القوات السودانية وسط العاصمة الخرطوم، من أحد منافذها، حتى تسحبك الحشود البشرية إلى عمقها، وتدفعك على المكان نحو اكتشاف أسراره.
فسيفساء شعب ثائر
في المكان الذي نقشت فيه الشعارات والهتافات فسيفساء شعب ثار من أجل الحرية والتغيير، يستوقفك جدار حولته أنامل المعتصمين إلى لوحات جرافيتي عملاقة.
لوحات فيها من الشمولية والدلالات والتنوع والتعدد، فضلا عن التوثيق لإحداثيات ومجريات يوميات "ثورة ديسمبر"، بدءا بجدارية الشهداء، مرورا بـ"الكنداكة" الشابة التي وقفت وسط الثوار تهتف ويرددون من ورائها الهتافات الحماسية، وصولا وليس آخرا بالمرأة السودانية والسلام والحرية والعدالة، وضباط الجيش الذين وجد فيهم المعتصمون "صدا منيعا" من أي "مس" قد يصيبهم.
ولقب "كنداكة" برز في احتجاجات السودان، وهو يشير إلى صمود وعزة المرأة وقدرتها على المواجهة والتحمل.
وارتبط هذا المصطلح بالملكات الحاكمات في الحضارة النوبية القديمة.
للفن طعم على الجدار
مصطفى رضوان حمدان، أحد الفنانين التشكيليين الذين التقتهم "العين الإخبارية" في أحد مداخل الاعتصام، كان منهمكا في لوحة بدا وكأنه يفجر من خلال ريشته طاقة إبداعية كامنة كادت تنطق سلاما وحرية وعدالة.
يقول مصطفى الذي شارف على انتهاء عقده الرابع، إن "الرسم في هذا المكان ليس للتزيين بل لجعل الفن جزءا من المشهد الحاصل في السودان".
وبينما كانت ريشته تسيل حبرا، تابع حديثه: "جئت إلى هنا منذ اليوم الأول للاعتصام (٦ أبريل/نيسان الجاري)، لأنني على ثقة بأن تلك اللوحات التي نرسمها قادرة على إيصال الرسالة خاصة في ظل الأوضاع السياسية التي تشهدها بلادنا، فالفن سلاح بحد ذاته".
هنا باقون
تركنا مصطفى يضع اللمسات الأخيرة على لوحته، وقبل أن نغادره سألناه "إلى متى أنت باقٍ هنا؟"، لتأتي إجابته دون تردد أو لعثمة: "إلى أن تتحقق جميع مطالبنا، حرية وسلام وعدالة، وقصاص للشهداء، وحكومة مدنية".
حمامة سلام وريشة ثورة
واصلنا السير في مكان الاعتصام، وما زلنا نشاهد نساء ورجالا في ملحمة فنية يحولون نيران الغضب الكامنة في الصدور إلى خطوط وصرخات على الجدران.
فالكل هنا يكتب حكايته، والكلّ يرسم مستقبله على طريقته، لكن المؤكد أن من بين جميع تلك الخطوط تحلق أجنحة حمامة بيضاء حاملة رسالة أمل.
كتلك الحمامة التي كادت تحلق من لوحة الفنانة التشكيلية رقية محمد، التي باتت لوحاتها كغيرها من الفنانين المتواجدين، تجذب الكثيرين من المعتصمين أفرادا وعائلات، لالتقاط الصور التذكارية معهم.
لوحات فيها قصة ما بين الصورة والمشاهد، على قاعدة يؤمن بها أصحاب هذا الفن بأن التعليق البصري يمثل دعوة مجانية لاستثارة الحوار حتى وإن كان صامتا.
تدرك "رقية" ابنة العقد الثاني من العمر أن الفن بكل أشكاله وعناصره ومركباته وخطوطه الحكاية المجازية يعكس المشهد السياسي وحتى الاجتماعي والثقافي الحاصل في السودان.
تجزم "رقية" أيضا بأن المرأة السودانية قادرة حتى ولو بريشتها أن تغير من بوصلة الأحداث، جنبا إلى جنب مع شرائح المجتمع كافة.
ترى الشابة التشكيلية في رسالتها الفنية "واجبا وحقا للوطن"، قائلة: "أي زول (شخص) عنده (لديه) فكرة يريد أن يعبر من خلالها عن انتمائه للوطن ودفاعه عنه".
"رقية" لا تأبه لحرارة الشمس العالية ولا لتغيرات الطقس في المكان، فهي مصممة على البقاء حتى "تتحقق مطالب الثوار، رغم تنفيذ المجلس العسكري الانتقالي بعض الشروط التي ينادون بها".
ومنذ ٦ أبريل/نيسان الجاري، يواصل المتظاهرون اعتصامهم الذي كان ذروة احتجاجات استمرت ١٦ أسبوعا أثارتها أزمة اقتصادية أمام مقر قيادة القوات المسلحة وسط الخرطوم.
ففي مستهل حراكهم، طالب المعتصمون قيادة الجيش بدعم مطلبهم بإسقاط الرئيس عمر البشير، الذي بقي يحكم البلاد طيلة ٣٠ عاما.
وما لبث أن لبى الجيش النداء، فأقال البشير من منصبه، في الـ١١ من أبريل/نيسان، ورغم هذه الخطوة الكبيرة فإن الاحتجاجات ما زالت متواصلة، ويقول القائمون عليها إنها لن تتوقف قبل أن يسلم المجلس العسكري الانتقالي (الذي تشكل بعد الإطاحة بالبشير ويدير شؤون البلاد حاليا) السلطة لقيادة مدنية قبل إجراء الانتخابات.
ومع غروب الشمس، تتوافد حشود جديدة على ساحة الاعتصام، ويرتفع صوت أذان المغرب، فتصطف الحشود للصلاة، ويتعالى الدعاء.
ومن الصلاة إلى الميدان، تصدح الحناجر من كل الأجيال وفِي قلوبها أمل ببزوغ فجر يزيح عتمة ليلهم.