بيت بيروت.. أيقونة معمارية فريدة تقهر الحرب وتنتصر للذكريات
البيت الأصفر يعد أحد معالم بيروت الشهيرة لما يحمله من ذكريات لما قبل الحرب، بالإضافة إلى تحوله خلال النزاع لمرتع للقناصة
هنا.. شُيدت أخطر البنايات العسكرية في الحرب الأهلية بلبنان، وكان خطا فاصلا بين أطراف الحرب التي استمرت 15 عاما، وبعد انتهاء النزاعات تحول هذا المبنى تدريجيا إلى معلم يسرد قسوة الحرب على لبنان وشعبها.
وظلت آثار الدمار والرصاص على جدران "بيت بيروت"، الواقع بميدان السوديكو وسط العاصمة اللبنانية، حتى بدأ الترميم عام 2003، الذي حول المبنى إلى معرض دائم لتوثيق سنوات الحرب الأهلية وذاكرة للماضي.
" العين الإخبارية" تجولت داخل المبنى لتتعرف على قصته ودوره في الحفاظ على تاريخ بيروت.
مبنى بركات
يحمل بيت بيروت ذكريات ما قبل الحرب، قبل أن يصبح جزءا من ساحة النزاع الذي اندلع عام 1975.
موقعه في قلب بيروت ومعماره المتميز، الذي يعود لعشرينيات القرن الماضي جعله مميزا، وكانت تملكه عائلة لبنانية تدعى "عائلة بركات" لذا عرف وقتها باسم "مبنى بركات".
في عام 1924 طلبت العائلة من المهندس يوسف أفطيموس تصميم المنزل بشكل يسمح برؤية جميع جهات بيروت، وتطور معماره بعد 8 سنوات من التشييد الأول، بعد دمج المهندس فؤاد قزح للمعمار الأوروبي في واجهة البيت باستخدام الحجر الرملي الأصفر، ومن هنا أطلق عليه "البيت الأصفر".
وبقدر ما كان موقع البيت ميزة لساكنيه تحولت تلك الميزة إلى مصدر خطر بعد اندلاع الحرب الأهلية في 13 أبريل/نيسان 1975، عقب "حادث البوسطة" بين حزب الكتائب اللبنانية ومسلحين فلسطينيين وقتها، والتي جاءت عقب مقتل 27 فلسطينيا مقيما في مخيم تل الزعتر.
وأطلقت الكتائب النيران على الحافلة التي كانت يستقلونها من غرب بيروت إلى المخيم. وسبقت هذه التطورات حادث إطلاق نيران على الكتائب في منطقة عين الرمانة ببيروت، وأودت بحياة مرافق لرئيس الحزب بيار جميل.
خط تماس
ومع تفاقم الأوضاع بين أطراف الحرب تحول القتال على أساس الهوية الدينية، وبدأت عملية النزوح من جميع الطوائف اللبنانية، وظهرت بوادر الانقسام في بيروت إلى "بيروت الشرقية" ذات الأغلبية المسيحية ومحاطة بمخيمات الفلسطينيين، و"بيروت الغربية" ذات الأغلبية المسلمة، وتحديد خط فاصل بين المنطقتين هو "الخط الأخضر".
وفي التقسيم الجغرافي ما بعد الحرب، وقع بيت بيروت على خط تماس بين الشرقية والغربية، في أكثر المناطق خطورة بالقتال.
وفي وثائق البيت، تركت منى الحلاق المهندسة المعمارية شهادتها عن الحرب، قائلة: "جلبت الحرب الأهلية النيران والقتل والممارسات العنيفة، ما حول البيت إلى منزل مهجور عن المدينة، بعد ما كان أيقونة معمارية فريدة".
تبدل حال البيت بعد أن أصبح إحدى آلات القتال، وحلّ القناصة محل سكانه، وظلت أصوات الرصاص تدوي في جنباته طوال 15 عاما، قبل تطبيق وثيقة اتفاق الطائف التي أنهت الحرب عام 1990.
ترميم الذكريات
خلفت حرب لبنان وراءها 150 ألف قتيل و300 ألف جريح و17 ألف مفقود، وتهجير أكثر من مليون لبناني، وتركت منازل مهدمة وآثارا مدمرة ظلت محتفظة برائحة القتال بين جدرانها.
واحتفظت أنقاض "بيت بيروت" بذكريات وحكايات كثيرة، وكانت منى الحلاق أول المهتمين بمشروع ترميم البيت الأصفر وتحويله إلى بيت بيروت ومتحف ذاكرة للمدينة بين الحقبتين ما قبل الحرب وأثنائها.
وحرص القائمون على ترميم المبنى البالغ مساحته 2300م2، على احتفاظه بآثار الحرب من كتابات المقاتلين على الجدران وآثار طلقات الرصاص على الحوائط والواجهة.
مشروع الترميم قسم بيت بيروت إلى المبنى الأصفر، الذي يضم متحف ذاكرة للعاصمة اللبنانية طول تاريخها، وجزء آخر مخصص للمعارض الدائمة والمؤقتة للصور القديمة والحديثة التي تجمع بين فترات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.
وبدأت "الحلاق" معركتها للحفاظ على تاريخ لبنان، بالعثور على أرشيف صور "فوتو ماريو" تحت أنقاض أحد المحلات التجارية بالطابق الأرضي بالمنزل، وبين الركام وجدت 10 آلاف نيجاتيف لصور ملطخة وممزقة وتالفة تؤرخ للحياة في لبنان ما قبل الحرب، خاصة أن اللبنانيين اعتادوا توثيق لحظاتهم الشخصية بالتصوير الفوتوغرافي.
"عندما رفعت أول نيجاتيف مشوه لضوء الشمس، رأيت وجها ينظر إليّ بعينين بيضاء اللون، هنا كانت نقطة تحول في حياتي"، هكذا فسرت المهندسة اللبنانية سر إصرارها على تجميع النيجاتيف التالف ومحاولة إصلاحه من جديد، واصفة التصوير بـ"تكنولوجيا الذاكرة".
قصة استديو "فوتو ماريو" تعود لعام 1957 عندما استأجره صامويل ومانويل أجاميان وعمل به ماريو المصور، لكن بعد الحرب صار مهجورا.
وذكرت الحلاق أن أصحاب المحال المجاورة لم يستطيعوا تذكر ماريو المصور أو التعرف على أصحاب الصور المتبقية تحت الأنقاض، متمنية أن يتحول مشروع "فوتو ماريو" إلى وسيلة للتعرف على أصحاب الصور وتجميع الذكريات المرتبطة بالبيت الأصفر.
ويستمر اللبنانيون في استخدام التصوير لتوثيق تاريخ بيروت، وحرصت المصورة فادية أحمد على التقاط نحو 1200 صورة لبيروت للمقارنة بين الماضي والحاضر بالمدينة، وتضمن معرضها المؤقت في بيت بيروت صورا للمدينة من عام 2003، تجسد التعايش المعقد الذي تعيشه المدينة من مبانٍ مشيدة حديثة ومبانٍ متضررة من الحرب.