سعد الحريري.. من التكليف إلى الاعتذار
بعد 266 يوماً على تسميته أعلن رئيس وزراء لبنان المكلف سعد الحريري اعتذاره عن تشكيل حكومة في محطة تكتب نهاية تكليفه وبداية نفق جديد.
نحو 9 أشهر انقضت على تكليف الحريري، في فترة زمنية شكلت واحدة من المحطات الفارقة بتاريخ بلد أنهكته الأزمات المتلاحقة، قبل أن يعلن اليوم اعتذاره عقب لقاء الـ20 دقيقة مع الرئيس ميشال عون.
وفي تصريحات إعلامية أدلى بها في وقت سابق الخميس، قال الحريري إن "عون طلب مني تعديلات جوهرية على الحكومة، والواضح أنه لا ثقة بالموضوع وقدمت اعتذاري عن عدم تشكيل الحكومة والله يعين البلد".
في ما يلي، تستعرض "العين الإخبارية" مسار "أشهر التكليف" وسياقها وأبرز محطاتها وصولا إلى مقتضيات الدستور اللبناني في هذه الحالة التي تعيد البلاد إلى نقطة الاستشارات النيابية والعود على بدء مسار التكليف برمته.
انفجار المرفأ
بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، راهن اللبنانيون على أن تكون الفاجعة باباً للبدء بحل أزماتهم التي يتخبطون فيها منذ 2019، وخصوصاً على خلفية التضامن الدولي والعطف الذي حشدته البلاد من غالبية الدول التي أبدت استعدادها للمساعدة.
وحينها، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارتين إلى لبنان وعقد أكثر من مؤتمر لإغاثة الشعب اللبناني، فيما أبدت المؤسسات الدولية استعدادها للتدخل العاجل شرط تشكيل حكومة تبدأ بإصلاحات سريعة تستأصل الفساد المستشري وتعلن خطة نهوض واضحة.
لكن ما كان مأمولاً لم يتحقق، حيث كلف عون السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب بتشكيل حكومة غير سياسية من الاختصاصيين، لكن تم عرقلتها من "حزب الله" الذي أصر على الاحتفاظ بمواقعه الوزارية ومرشحيه الحزبيين، فاعتذر أديب وكلّف مجلس النواب اللبناني سعد الحريري من جديد لتشكيل حكومة، وذلك في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، لتبدأ رحلة تشكيل جديدة لم يكتب لها النجاح أيضاً.
قبل تكليف الحريري، أبدى عون امتعاضه منه وقام بتأخير الاستشارات النيابة لفترة أسبوع، وقبل يوم من تحديدها، توجّه ببيان ينصح فيه النواب بعدم تسمية الحريري. لكنّه عاد وكلّفه استناداً لنتائج الاستشارات النيابية الملزمة.
وبعد قبوله التكليف، أعلن الحريري أنه سيسعى لتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين تعمل على "تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية الواردة في مبادرة ماكرون".
وجاء تكليف الحريري في ظل ضغوط سياسية مارسها ماكرون الذي منح القوى السياسية، في 27 سبتمبر/ أيلول 2020، مهلة من 4 إلى 6 أسابيع لتشكيل "حكومة مَهَمّة" من الاختصاصيين المستقلين، وأرفق ذلك باتهامه للطبقة السياسية بـ"الخيانة الجماعية".
حكومة الـ18
تمسك الحريري بمهمته وأصر على حكومة من 18 وزيراً من الاختصايين، وشهدت الأجواء السياسية حالة من الشك والغموض، خصوصاً من خلال محاولات الرئيس عون وتياره فرض معاييرهم على الرئيس المكلف بدءًا من البدعة العونية الباحثة عن "التأليف قبل التكليف"، والتمسك بـ"الثلث المعطّل" داخل مجلس الوزراء .
و"الثلث المعطل" يعني حصول فصيل سياسي على ثلث أعداد الحقائب الوزارية بالحكومة؛ ما يسمح له بالتحكم في قرارتها وتعطيل انعقاد اجتماعاتها.
قسّم الحريري في تشكيلته الـ18 وزيراً على ثلاثة تحالفات، بحيث يكون من حصته وحصة وليد جنبلاط 6 وزراء، ومثلهم لفريق رئيس الجمهورية، و6 وزراء لتحالف "حزب الله" و"حركة أمل" وسليمان فرنجية.
وبعد عدة جولات من المشاورات، تقدم الحريري لرئيس الجمهورية بتشكيلة كاملة لكنها لم تحظ بقبول الرئيس، لتعود جهود تشكيل الحكومة إلى المربع الصفر بدخولها شهرها السابع دون وجود أيّ بادرة لحلّ العقد التي تؤخر ولادة الحكومة. وباءت جميع المساعي الفرنسية بالفشل، كما عجزت الجهود التي قادها البطريرك الماروني بشارة الراعي عن دفع عون والحريري لاعتماد الحوار لفكّ أسر التشكيلة الحكومية.
ورغم نجاح الراعي في كسر المقاطعة ما دفع الحريري للقيام بزيارة جديدة إلى القصر الرئاسي، لكن عون تعمّد إفشاله من خلال إرساله لائحة بتوزيع الوزارات على الطوائف والقوى السياسية، مع جندي في قوى الأمن الداخلي مرفقة بعبارة من "المستحسن تعبئة الجدول"، والتي اعتبرها الحريري بمثابة محاولة مكشوفة لفرض عون تشكيلة حكومية تكرّس حصول التيار على الثلث المعطّل، وعلى الوزارات المهمّة. وقد حصلت الزيارة في مارس/ آذار الماضي، لكنّها انتهت بتلاوة الحريري من القصر الجمهوري بياناً شرح فيه فشل الاجتماع وأسبابه، وأدى إلى قطيعة امتدت حوالي شهرين ونصف.
وفي جميع المراحل، لم تتوقف الجهود الدبلوماسية بل توسعت لتشمل زيارة جراها وزير الخارجية المصرية سامح شكري، والأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي، إلى بيروت في الأسبوع الأول من أبريل/ نيسان الماضي، لكن دون جدوى.
مبادرة بري
تقدّم رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي بمبادرة أيّدتها القاهرة، تقوم على اقتراح تشكيل حكومة من 24 وزيراً، تقسم على 8 وزراء للحريري وجنبلاط، و8 للرئيس عون و 8لحزب الله وحركة أمل وفرنجية، في تشكيلة قبل بها الحريري، لكن ما لبثت أن تعرقلت من جديد مع شروط جديدة وضعها عون وصهره جبران باسيل، حيث تمسكا بتسمية الوزراء المسيحيين ورفضا أن يسمي الحريري أي اسم من المسيحيين إضافة إلى التمسك بالثث المعطل ولو بطريقة مواربة، ما أشعل سجالاً وخلافاً بين بري وعون وباسيل، أوقف على إثره مبادرته.
ورغم ذلك، لم تتوقف الجهود الدولية لمحاولة إعادة التواصل، فقد عقدت اجتماعات بين وزراء الخارجية اللبنانية والفرنسية والسعودية على هامش قمة المناخ، أعقبتها تحركات للسفيرتين الأمريكية والفرنسية، كما تواصلت الجهود المصرية عبر سفير مصر في لبنان وفريق من وزارة الخارجية الذي استكمل اتصالاته مع عدد من الفرقاء، إضافة إلى زيارات مستمرة للموفدين الفرنسيين، لكنها جميعها لم تثمر أي تقدم في ظل تمسك كل فريق بمطالبه.
وأمس الأربعاءن زار الحريري عون عقب قطيعة طويلة، وقدم له تشكيلة حكومية من 24 وزيراً واعتبرها الفرصة الأخيرة قبل الاعتذار.
واليوم، زار الحريري القصر الرئاسي من جديد ليخرج بعدها مؤكداً عدم إمكانية الاتفاق مع عون الذي طلب منه تغييرات اعتبرها جوهرية لا يستطيع القيام بها، ليطوي بذلك صفحة التكليف، ويقف لبنان من جديد بوجه العاصفة.
ماذا بعد؟
بعد اعتذار الحريري، ينتص الدستور اللبناني على أن يدعو رئيس الجمهورية إلى استشارات نيابية ملزمة ينتج عنها تسمية شخصية تكون مكلفة لتشكيل مجلس الوزراء.
لكن في المقابل، لم يحدد الدستور مهلة للرئيس لهذه الدعوة وهذا ما استعمله عون في العديد من الأوقات لتأجيل الاستشارات، ومن المتوقع أيضاً في هذه المرحلة أن تتأخر هذه الاستشارات، رغم وعد الرئاسة في بيانها الأخير بأنها ستجريها قريبا.
وعادة لا تنطلق مثل هذه الاستشارات في لبنان إذا لم يحصل اتفاق على اسم، خصوصاً بين الكتل الكبيرة في مجلس النواب، وهو ما يبدو متعذراً حالياً بحسب ما كشف نائب رئيس "تيار المستقبل" مصطفى علوش لـ"العين الإخبارية".