مقاربة ماكرون تجاه روسيا.. من أوروبا إلى أوراسيا

تندرج السياسة الفرنسية الجديدة نحو روسيا الاتحادية تحت مفهوم بناء جديد للأمن في أوروبا يفضى إلى شراكة استراتيجية مع روسيا الاتحادية.
على غرار سلفيه الزعيمين الفرنسيين الراحلين، شارل ديجول وفرانسوا متيران، يسير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بخطى حذرة نحو روسيا وفق سياسة ومقاربة متأنية.
الأول أي ديجول كان يدعو إلى أوروبا الموحدة من جبال الأورال التي تمتد من كازاخستان إلى روسيا، أما الثاني متيران فقد أبدى إعجابه بالمبادرة التي أطلقها آخر زعماء الاتحاد السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف تحت عنوان "البيت الأوروبي المشترك" والتي استهدفت الجمع بين دول المجموعة الاشتراكية آنذاك وبين دول أوروبا الغربية في بناء مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية.
مرتكزات سياسة ماكرون إزاء روسيا
تتمثل مقاربة ماكرون نحو روسيا الاتحادية في ضرورة استعادة الثقة بين الجانب الأوروبي والجانب الروسي وأن تجاوز فجوة الثقة يقتضى تجاوز الأخطاء الغربية وسوء الفهم المتبادل.
وتتأسس هذه المقاربة على عنصرين أولهما الحذر في التعامل مع الرئيس الأمريكي والولايات المتحدة في عهده وتقلب آرائه في الحلفاء، أما ثانيهما فيتلخص في جذب روسيا بعيدا عن التحالف مع الصين، واعتبار هذه الأخيرة في نموها المتعاظم وحضورها النشط خطرا مشتركا على أوروبا وروسيا معا.
من ناحية أخرى يرى ماكرون أن فرنسا ليس بمقدورها أن تبقى في مواجهة روسيا رهينة الدبلوماسية الأمريكية أو دبلوماسية الدول الأوروبية التي عانت من سياسات الاتحاد السوفيتي السابق.
في ذات السياق أيضا فإن فرنسا ترى في روسيا الاتحادية أنها فاعل مهم في العديد من الملفات والقضايا الدولية خاصة في الشرق الأوسط وفى سوريا والملف النووي الإيراني والأمن الأوروبي والدولي والنظام العالمي الراهن.
من أجل ترجمة هذه التوجهات الفرنسية إزاء روسيا التقى الرئيس الفرنسي ماكرون بنظيره الروسي بوتين مرتين الأولى في عام 2017 عندما هنأ بوتين ماكرون لفوزه في سباق الرئاسة، والثانية قبل عقد قمة الدول السبع في مقر إقامة ماكرون الصيفي، وتباحثا حول العديد من الملفات الثنائية والمتعددة تتعلق بالتجارة الدولية وأوكرانيا وغيرها من القضايا.
وفضلا عن هذه اللقاءات فإن فرنسا قد أعادت إحياء لقاءات (2+2) والتي كانت قد تم إرساؤها في عام 1990، ولكنها توقفت وتجمدت في عام 2014 بعد ضم روسيا للقرم، وهى واقعة الضم الأولى بالقوة بعد الحرب العالمية الثانية.
كما سيطرت روسيا على منطقة تابعة لأوكرانيا من خلال حركة تمرد مسلحة، وكذلك وفى نفس التاريخ تم تجميد عضوية روسيا في مجموعة السبع، والمقصود بــ 2+2 هو اجتماع وزراء الدفاع والخارجية من كلا البلدين فرنسا وروسيا للتباحث حول إمكانيات التعاون والأمن.
يدرك الرئيس الفرنسي ومعاونوه أن هذه المقاربة تجاه روسيا الاتحادية تواجه مقاومة الإدارة الفرنسية خاصة من قبل الخارجية الفرنسية، كما يعترضها الكثير من الشكوك حول جدواها وفاعليتها في توقيت يتضاعف فيه مشكلات روسيا مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، التي تتعلق بالقرم وأوكرانيا وجورجيا وسوريا والتسلح التقليدي والنووي، ومن أجل تقليص هذه المقاومة وتبديد هذه الشكوك، يؤكد وزير الخارجية الفرنسية الحالي جون إيف لودريان أن حالة فقدان الثقة بين فرنسا وروسيا واستمرارها لا يخدم أحدا.
وعلى العكس من ذلك فإن حضور هذه المشكلات التي تتعلق بأوكرانيا وسوريا واستخدام الأسلحة الكيماوية والهجمات السيبرانية تتطلب حوارا جادا ومسئولا.
من ناحيته يرى الرئيس الفرنسي ماكرون أن القارة الأوروبية لن تكون مستقرة ولن تكون آمنة ما لم نبنى علاقات سلمية مع روسيا وشفافة وذلك أثناء لقائه السنوي بسفراء فرنسا في الخارج حيث يضع في هذا اللقاء التوجهات الكبرى لسياسته الخارجية.
الانقسام والجدل الأوروبي إزاء هذا التوجه
هذه المقاربة الماكرونية تجاه روسيا تثير الكثير من الشكوك والجدل من جانب العديد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبولندا، فالأولى ترى أن إعادة النظر والتفكير في العلاقات مع روسيا يستوجب تغيير السياسة الروسية خاصة تجاه أوكرانيا أما بولندا فإن وزير خارجيتها قد صرح بأنه يجب علينا أولا تدعيم العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وبعد ذلك بين الديموقراطيات الغربية ثم وأخيرا مع البلدان الاستبدادية، ولكن فرنسا ترى الأمور بطريقة مختلفة، في حين أن دول مثل اليونان وإيطاليا تدعم التوجه الفرنسي الجديد نحو روسيا الاتحادية.
تندرج السياسة الفرنسية الجديدة نحو روسيا الاتحادية تحت مفهوم بناء جديد للأمن في أوروبا "Nouvelle architecture de securite" يفضى إلى بناء شراكة استراتيجية مع روسيا الاتحادية، ويرى الناقدون لتوجه الرئيس الفرنسي تجاه روسيا، أن الرئيس لم يخفى هذا التوجه بل دعا إليه منذ 2018، ولكن هذه الفكرة تعتبر صدى لاقتراح سوفياتى حول الأمن الأوروبي في عام 1950، وإعلان بوخارست عام 1966 ونداء بورابسب عام 1969، والذى أخرجه الرئيس الروسي السابق ميدفيدف عام 2008.
وهذه المقترحات تميزت بالغموض وعدم القابلية للتطبيق لأنها كانت في مجملها تمنح موسكو الحق في إلقاء نظرة على القرارات الغربية.
ولا يتوقف النقد حول جذور الفكرة التي تركزت عليها سياسة ماكرون تجاه روسيا بل يمتد كذلك إلى الحجج التي يبنى عليها ماكرون مقاربته خاصة ما تعلق منها بالحؤول دون لحاق روسيا بالصين وتأكيده أن روسيا حقيقة جغرافية وتاريخية وثقافية أوروبية.
من وجهة نظر هؤلاء فإن روسيا لم تعد أوروبية وعمل بوتين على فك الارتباط بأوروبا وطرح على بلاده بديلاً جديدا أن تكون المنقذ المحافظ لأوروبا وعودة أوروبا إلى القيم التقليدية والتوجه نحو الشعوب ذات الأصول التركمانية والحلم بتحالف كبير مع الصين معادى للغرب، ومن أجل ذلك فإن الزعيم الروسي يرفض أوروبا، حيث شارك الصين في إنشاء منظمة شنغهاي للتعاون ووقع معاهدة الصداقة والتعاون مع الصين ويزداد التبادل التجاري والعسكري بين الدولتين.
بالإضافة إلى ذلك فإن اختلاف الدول الأوروبية وانقسامها حول الموقف الفرنسي من روسيا الاتحادية يبدو في نظر الناقدين لهذا التوجه أنه يصب في مصلحة روسيا بوتين التي لا تريد لأوروبا أن تتحدث بصوت واحد في العديد من القضايا ذلك إن إضعاف الاتحاد الأوروبي يظل هدفا للسياسة الخارجية الروسية تجاه أوروبا الموحدة ويتخذون من دعم روسيا لليمين المتطرف والشعبوي في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية دليلا على ذلك.
إضعاف الموقف الأوروبي في السياسة الخارجية
لا شك أن الرئيس الفرنسي يسلك طريقا مختلفا ويتبنى سياسة مختلفة تجاه روسيا ورغم أنها تنخرط في صلب الموقف الفرنسي من البناء الأوروبي إلا أنها في الوقت الراهن تمثل إحدى دوائر الانقسام والاختلاف في مواقف دول الاتحاد الأوروبي، والذى يظهر ضعفه في مجالين أساسيين ألا وهما مجال السياسة الخارجية والدفاع حيث تبنى معظم الدول الأوروبية الفاعلة والكبيرة سياساتها في هذين المجالين وفق مفهوم المصلحة الوطنية التي تختلف من دولة لأخرى وفق التقاليد السياسية والثقافية والفكرية والمواقع الجغرافية والاستراتيجية التي تشغلها هذه البلدان على صعيد القارة عموما والعالم خاصة بقضاياه الدولية والمناخية.
والسؤال هو هل ينجح الرئيس الفرنسي في هذه المقاربة الجديدة إزاء روسيا؟ وبلا شك فإن إجابة هذا السؤال تتوقف على قدرة هذه السياسة وحيويتها في تفكيك عقد ورواسب الماضي المتجذرة لدى العديد من دول أوروبا الشرقية والذين عانوا من جراء الحقبة السوفيتية وتحجيم آثار ربيع براغ واجتياح المجر وموقف الاتحاد السوفيتي السابق من دول البلطيق، من ناحية أخرى فإن نجاح هذه السياسة يتوقف كذلك على تأكيد وإبراز القضايا موضع الخلاف بين أوروبا وروسيا الاتحادية خاصة ما تعلق منها بالديموقراطية وحقوق الإنسان وأوكرانيا وجورجيا وضم القرم والسيطرة على التسلح التقليدي منه والنووي، بالإضافة إلى النجاح في إحداث اختراق على صعيد العلاقات مع روسيا واستجابات روسيا على مختلف دوائر العلاقات الدولية مع الاتحاد الأوروبي.
aXA6IDMuMTQuMjUxLjExNSA=
جزيرة ام اند امز