دبلوماسية القمة
تداخل القمم الثلاث خلق مظاهرة تأييد ضمنية للموقف السعودي والخليجي عامة في الأزمة الجارية.
مع انعقاد سلسلة من مؤتمرات القمة الخليجية والعربية والإسلامية في أعقاب الأعمال التخريبية التي حدثت في 4 ناقلات بترولية (اثنتان سعوديتان وواحدة إماراتية وثالثة نرويجية)، والضربات الموجهة من طائرات "الدرونز" إلى المضخات البترولية لشركة أرامكو في المملكة، فإن حالة التفاعلات الأمريكية/الإيرانية والإيرانية/الخليجية قد انتقلت من المرحلة التي كانت معتادة للتوتر السياسي والاستراتيجي الناجم عن السياسة الإيرانية والأمريكية في المنطقة إلى حالة الأزمة الدولية والإقليمية.
وبالطبع فإن للأزمة جوانب متعددة سياسية ودبلوماسية وعسكرية، ولكن هذا المقال سوف يخصص لمشهد واحد منها يتعلق بدبلوماسية القمة التي انطلقت من المبادرة السعودية في أعقاب الهجمات العسكرية التي جرت قرب المياه الإقليمية للإمارات والمملكة، والتي رغم تبني "الحوثيين" لها، فإنها كانت إيرانية التوجيه والتسليح والتمويل، وجزء لا يتجزأ من عمليات التصعيد في الأزمة، بل إن حدوثها بالشكل الذي جرت عليه نقلت الأزمة من مرحلة إلى مرحلة أخرى أكثر سخونة وحدة.
وفي مثل هذه الحالة فإن اللجوء إلى "دبلوماسية القمة" لا يمكن النظر إليه إلا من خلال عدسة الأزمة الجارية، وخطوة من خطوات التعامل معها، فالثابت أن "الدبلوماسية" تجرى في العادة بين طرفين دوليين بهدف التفاوض حول حل مشاكل عالقة، أو لتعزيز العلاقات بين طرفين فيها الكثير من التعاون وبعضاً من تنظيم المنافسة بينهما، ويحدث ذلك عادة عندما تكون هناك الكثير من المصالح المشتركة.
"دبلوماسية القمة" هي نوع مختلف، صحيح إنها خاصة بالتفاوض أيضاً، ولكنها متعددة الأطراف، وأهميتها تعود إلى أنها تنعقد على مستوى الملوك والرؤساء ومن بيدهم قيادة الدول.
وفي حالتنا فإن انعقاد ثلاث قمم، أولها خليجية يحضرها أعضاء مجلس التعاون بدول الخليج العربية الست؛ وثانيها قمة عربية تحضرها الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية وهي ٢٢ دولة عربية؛ وثالثها القمة الإسلامية والمشاركون فيها هم الدول الأعضاء في منظمة دول المؤتمر الإسلامي وعددهم ٥٧ دولة.
القمم الثلاث تبدو كما لو كانت مكونة من ثلاث دوائر، يقع في القلب منها الدول العربية الخليجية، وهي الدول الضالعة بشكل أو آخر في الأزمة الجارية؛ ثم الدائرة العربية الأوسع والتي رغم أنها ليست في قلب التطورات الجارية بنفس درجة الدول الخليجية، إلا أن بعضها يتأثر بشكل مباشر مثل العراق الذي هو أيضاً دولة خليجية كما أنه يقع على الخط الفاصل بين إيران التي لها امتدادات سياسية وعسكرية داخل العراق والولايات المتحدة الأمريكية التي لها قوات في بغداد؛ وكذلك فإن مصر العضو في التحالف الرباعي الذي يضم أيضاً المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين بينها من التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي ما يجعلها متأثرة بما يجري في الأزمة من تطورات.
الدائرة الثالثة الإسلامية الأوسع فيها دول كثيرة بعيدة جيوسياسياً وجيواستراتيجياً من الأزمة الراهنة؛ ومع ذلك فإن كل ما يمس المملكة وفيها الحرمين الشريفين يمس وتراً حساساً لكل المشاركين في الرابطة الإسلامية. وكان ذكاء من الدبلوماسية السعودية أنها أولاً عقدت القمم الثلاث بطريقة متزامنة، وفي مدينة مكة المكرمة، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم، وبمناسبة مرور خمسين عاماً على إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، وانتقال رئاسة المنظمة من تركيا إلى المملكة العربية السعودية.
تداخل القمم الثلاث خلق مظاهرة تأييد ضمنية للموقف السعودي والخليجي عامة في الأزمة الجارية، ولكنه من ناحية أخرى فتح الباب لسلسلة من القضايا التي عادة ما تشغل بال هذه القمم في انعقاداتها المنفصلة. من هنا فإن الباب مفتوح لمراجعة قضايا الإرهاب، والإسلاموفوبيا، وجامو وكشمير، جمهورية قبرص التركية، والجزر الإمارتية الثلاث المحتلة من قبل إيران، وهي التي رغم تعقيدها الشديد فإن هناك دائماً صيغاً ونقاطاً توافق جرى إرساؤها خلال قمم سابقة، وعادة ما يتم تكرارها في القمم الجديدة ما لم يكن قد جد جديد فيها؛ حيث زاد بعضها توتراً، أو ظل البعض الآخر خاملاً.
الاستثناء في هذه الحالة كان "القضية الفلسطينية" والتي يشارك باسمها السيد محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ضمن الدائرة العربية والأخرى الإسلامية في لحظة بدأت فيها عجلة "صفقة القرن" الأمريكية في الدوران.
والحقيقة فإن الدبلوماسية السعودية حرصت منذ اللحظة الأولى أن تقرر أن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى والمركزية بالنسبة للمملكة، وبذلك جرى قطع الطريق على كل من يذيع أن الرياض تسعى لكي تحل إيران مكان إسرائيل في خريطة تحديد أولويات العداء في المنطقة. أكثر من ذلك فإن خطاب الافتتاح وضع إطاراً لحل القضية يختلف كلية عن كل ما ذاع عن "صفقة القرن" لأن الطرح السعودي قام على قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وفي إطار من المبادرة العربية للسلام التي سبق أن وافقت عليها القمم العربية المختلفة وكذلك القمم الإسلامية المتعددة منذ عام٢٠٠٢. وهكذا كما يقول المثل العربي أن "جهيزة قطعت قول كل خطيب"، فإن التأكيد على كل ما سبق التوافق عليه فيما يخص القضية الفلسطينية، فإنه يمكن للجمع الخليجي والعربي والإسلامي أن يواجه الموقف الحرج في المنطقة، والذي دفع إلى دعوة انعقاد القمم الثلاث دفعة واحدة.
إن البعض طالب بأن تصدر عن القمم "قرارات حاسمة" وأن يكون فيها ابتعاد عن "اللغة الدبلوماسية" وأن تحشد هذه الدول جميعها حشودها لتطبيق ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بمن يهدد الأمن والسلم الدوليين.
ولكن ليس لمثل هذا كانت "دبلوماسية القمة"، فالمؤسسة الدولية المنوط بها القيام بإجراءات اقتصادية وعسكرية عقابية هي الدول مستخدمة في ذلك حق الدفاع الشرعي عن النفس، أو التحالفات العسكرية التي وفق ميثاقها القيام بالإجراءات اللازمة لحماية مصالحها الحيوية، أو مجلس الأمن الذي يمكنه استخدام الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتوقيع عقوبات اقتصادية أو عسكرية يلتزم بها المجتمع الدولي.
القمم الدبلوماسية لها مهام أخرى، فمجرد انعقادها كما ذكرنا فيه رسالة تضامن، وبعد ذلك فإنها تكون ساحة للاتصالات المباشرة، وفي مثل حالتنا فإنها تكون التوقيت الذي يجرى فيه اطلاع الدول الأعضاء على دخائل تطورات الأحداث.
فالمملكة والإمارات وإيران أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد قامت هذه الأخيرة بالاعتداء على كل من الدولتين الأولى والثانية من خلال جماعة طائفية إرهابية تتبناها بالتسليح والتمويل وهي جماعة الحوثيين.
الدلائل على هذه الصلة، والمعلومات الاستخباراتية عن الحادث، من المرجح أنه تم عرضها على المشاركين في القمم، خاصة أن المملكة والإمارات قد تحليتا بدرجة كبيرة من الحكمة وضبط النفس، وتجاوز كلاهما عن السلوكيات الاستفزازية بتقديم المساندة لإيران في موضوعات إنسانية، كان آخرها تقديم المساعدة في التعامل مع آخر الزلازل في إيران.
وبالإضافة للاتصالات وبناء التفاهم حول حقائق ما جرى وأشعل الأزمة في المنطقة وأخرجها عن نطاقها الأمريكي الإيراني حول الاتفاق النووي، فإن القمم تكون لقياس مواقف الأطراف المختلفة، خاصة في المواقف الحرجة للأزمات.
هنا فإن القمة الخليجية لها أهمية خاصة، لأنها تعطي قطر الفرصة لكي تقرر أين سوف تقف من الأمة خلال المرحلة المقبلة.
فالواقع أن قطر تلعب حتى الآن على جميع الحبال، فهي بحكم الواقع لديها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، كما أن أرضها هي ساحة وساطات وعلاقات أمريكية مع جماعات إرهابية مختلفة الملل والنحل؛ وهي في الوقت نفسه لها علاقات متعددة مع إيران، وفور نشوب الأزمة ذهب وزير خارجيتها إلى طهران.
القمة الخليجية هي لحظة وضع النقاط على الحروف وتحتها، وهي لحظة فرز للمواقف وأحياناً تقرير مصير.
القمة العربية لها مهمة لا تقل أهمية، ففضلاً عن التشاور المعتاد، فإن مهمتها ربما تكون كيف يمكن حماية العراق خلال المرحلة الدقيقة المقبلة، فليس سراً أن المملكة والإمارات قامتا بخطوات كبيرة مع العراق، ليس فقط باستئناف العلاقات الدبلوماسية، وإنما إقامة علاقات اقتصادية وسياسية لإخراج العراق من كبوته، وذلك دون تمييز بين القوى الطائفية المختلفة سنة أو شيعة أو أكراد. وبنفس الطريقة فعلت مصر والأردن الاقتراب من بغداد التي أصبحت الآن أكثر تماسكاً من أي وقت مضي سواء كان ذلك في حربها ضد داعش أو في إدارتها للعلاقات المعقدة مع إيران والولايات المتحدة.
ومع ذلك فإن ظروف الأزمات الدولية والإقليمية الحادة تضغط بقوة على الدول العربية، فكيف يكون الحال إذا ما كانت الدول خارجة من فترات إرهاق ووهن، ولدى الولايات المتحدة وإيران فيها نفوذ وقوات؟
هل يمكن أن تكون القمم وسيلة لحل الأزمة الكبرى التي دعت إليها؟ مثل ذلك وارد بالطبع، فهناك ازدحام من الدول التي تريد الوساطة سواء بين إيران والولايات المتحدة، أو بين إيران ودول الخليج العربية. وقبيل انعقاد القمم فإن إيران حاولت الفصل بين الجبهة الأمريكية والأخرى العربية بأن عرضت الاستعداد لتوقيع معاهدة عدم اعتداء مع الدول العربية؛ ولكنها لم تذكر شيئاً عن علاقاتها لا مع جماعة الحوثيين، ولا دورها في حرب اليمن ضد الحكومة الشرعية، ولا مساهمتها في العدوان الأخير بالألغام وطائرات "الدرونز".
في مثل هذه القمم يكون الرد على الطرح الإيراني، والذي يكشف عما إذا كان تحركاً تقليدياً، أو يعطيها جسراً حقيقياً للخروج من المأزق الذي دخلت فيه فتكون عروضها القادمة أكثر احتراماً للعقول من عرضها الأخير.