«مدينة الذهب» و«العدو اليائس».. «كايس» المالية تُقلم مخالب القاعدة

تكتيك الإرهابيين لا يقوم على السيطرة الميدانية المباشرة بل على قطع شرايين الإمداد وتجويع المدنيين بهدف الترهيب وإشعال فتيل الغضب.
هذا ما يحدث تقريبا في كايس الغنية بالذهب غربي مالي، المدينة التي تواجه حربا شرسة مع إرهابيي جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، ذراع القاعدة الإرهابي، وتوشك على النجاة من مخالب التنظيم رغم حربه النفسية المستمرة.
وتؤكد الحكومة الانتقالية أن الجيش "يسيطر على الوضع الميداني" وتدعو السكان إلى التنقل "بحرية"، فيما أعلنت هيئة الأركان العامة أنها "حيّدت" "عشرات الإرهابيين" في المنطقة، وفق ما نقلت إذاعة "فرنسا الدولية".
وبحسب المصدر نفسه، يُجري الجيش عمليات تفتيش وضربات جوية، ويُسيّر دوريات على الطريقين الوطنيين 1 و3 يوميا بالمدينة.
وأول أمس الإثنين، نفى الجيش المالي، في بيان، وجود حصار في كايس، وقال المتحدث باسمه، العقيد سليمان ديمبيلي، إن حواجز الطرق، وتدمير شاحنات الصهاريج، واختطاف الركاب التي تزايدت في الأيام الأخيرة، ليست سوى "الأنفاس الأخيرة لعدو يائس".
وعزا في المقام الأول تعطيل حركة المرور إلى "موسم الأمطار".
ووفق بيان الجيش، فإن قواته نفذت عمليات في بلدتي دييما ونيورو شملت غارات جوية، وأسفرت عن تحرير رهائن كانوا محتجزين لدى المسلحين.
وفي تصريحات للتلفزيون الحكومي، أوضح ضابط برتبة كولونيل أن التدخل العسكري جاء لقطع الطريق أمام محاولات الجماعة الإرهابية تطويق المنطقة.
وهذه هي أحدث محاولات يقوم بها الحكام العسكريون في مالي، الذين تولوا السلطة بعد انقلابين في عامي 2020 و2021، لتخفيف الضغط المتزايد الذي تمارسه جماعات متشددة يقول محللون إنها تحاول تطويق المدن والبلدات في منطقة الساحل.
وسبق هذه الغارات، إعلان جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" الإرهابية، الخميس الماضي، أنها ستفرض قيودا على دخول شاحنات الوقود وتقييد حركة السكان في بلدتي كايس ونيورو قرب الحدود مع السنغال وموريتانيا.
ولم تتوقف التداعيات عند الجانب الأمني، إذ أكد مسؤول في نقابة سائقي الشاحنات أن بعض شركات النقل علّقت عملياتها على الطريق الرابط بين باماكو والعاصمة السنغالية داكار بسبب تهديدات المسلحين.
في ميزان الخبراء
ويقول خبراء من جامعة باماكو إن الأزمة التي تشهدها منطقتا كايس ونيورو، عقب إعلان الإرهابيين فرض حصار، منذ مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، تستدعي رؤيتها من 3 رؤي مختلفة أمنية -عسكرية، وإنسانية – مجتمعية، وسياسية – إعلامية.
تكتيك الجماعات المسلحة
عادة ما تستهدف الجماعات المسلحة المدنيين بشكل خاص، فتعطل حركة النقل وتمنع دخول احتياجاتهم الأساسية، في محاولة للدفع نحو إشعال فتيل الغضب الشعبي والتمرد على السلطات.
وهذا بالضبط ما يحدث، حيث يحاول الفصيل التابع للقاعدة اللعب على هذا الوتر من خلال بث رسائل بشكل غير مباشر واستثمار حالة الطقس السيئة وخوف السكان من الإرهابيين، والهدف من كل ذلك التشكيك برواية الجيش.
ففي الوقت الذي تنفي فيه القوات المسلحة المالية وجود أي حصار من قبل الجماعة الإرهابية، مؤكدة أنها "تسيطر على الوضع" وتخوض عمليات عسكرية واسعة، تنتشر شاحنات متوقفة على الطرقات، وصهاريج محترقة، فيما علقت شركات نقل خدماتها.
وهو ما أفاد به سكان محليون لوكالة رويترز، قبل يومين، بأن المسلحين أوقفوا بالفعل شاحنات وقود وأفرغوا حمولتها منذ بدء الحصار.
لكن الجيش طمأن السكان في بيانه بتأكيده السيطرة على الوضع الميداني ودعوة السكان للتجول بحرية.
ووفقا لبيان صادر عن هيئة الأركان العامة، دمرت الغارات الجوية، أمس الثلاثاء، "ملجأ للإرهابيين" في منطقة المصافة، على الحافة الشمالية لغابة باولي، في منطقة كايس القريبة من الحدود السنغالية والموريتانية.
وأشار الجيش إلى أنه أنه حيّد "عشرات الإرهابيين".
وفي هذا الصدد، يرى مامادو ديارا، أستاذ الدراسات الاستراتيجية بجامعة باماكو، أن "الجيش أعلن تنفيذ عمليات تعقب وتدمير، وتحدث عن ضربات جوية ونتائج مهمة، لكن دون تفاصيل دقيقة عن الخسائر في صفوف الجماعات المسلحة أو أعداد الرهائن الذين تم تحريرهم".
وبحسب ديارا، فإن تكتيك الجماعات المسلحة لا يقوم على السيطرة الميدانية المباشرة، بل على إرباك الاقتصاد وقطع شرايين الإمداد، ما يجعل من الصعب "كسر نفوذها بضربة عسكرية واحدة".
رؤية إنسانية واجتماعية
على المستوى الإنساني، ترى فاتو تراوري، أستاذة علم الاجتماع بجامعة باماكو، أن "السكان المدنيين هم الحلقة الأضعف".
وتقول تراوري في حديث مع "العين الإخبارية"، إن "التقارير الميدانية تتحدث عن شاحنات اعترضت طريقها الجماعات، وصهاريج أُحرقت، وشركة نقل كبرى مثل ديارا أوقفت نشاطها".
وهذا يعني من منظور تراوري أنه "حتى لو لم يكن هناك حصار مطبق بالكامل، فإن وصول المواد الأساسية إلى كاييس ونيورو أصبح صعبا ومتقطعا".
وأشارت إلى أن هذا الوضع خلق "إحساسا بالعزلة والتهديد" بين السكان، إذ لم يعدوا واثقين من استمرار تدفق الوقود أو الغذاء.
استراتيجية إعلامية ورسائل للخارج
أما في المجال السياسي والإعلامي، فرأت تراوري أن الحكومة والجيش "يعتمدان على خطاب مزدوج: طمأنة الداخل من جهة، وتوجيه رسائل للخارج من جهة أخرى".
وأضافت "التركيز على مصطلحات مثل "العدو في الرمق الأخير" أو "حرب معلوماتية تقودها وسائل أجنبية"، يهدف داخليا إلى رفع المعنويات، وخارجيا إلى طمأنة الشركاء الدوليين مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بأن الدولة ما زالت ممسكة بزمام الأمور".
لكن، بحسب مامادو ديارا، فإن هذه الاستراتيجية الإعلامية "قد تنقلب سلبا" إذا استمر المواطنون في الشعور بعدم الأمان أو العزلة، لأن الفجوة بين الخطاب الرسمي والتجربة اليومية قد تقوّض الثقة بالمؤسسات.
ووفقا للخبير السياسي المالي، فإن المعركة في جنوب غرب مالي "ليست فقط عسكرية، بل هي أيضا إنسانية وإعلامية".
وتابع في هذه الجزئية "بينما يركز الجيش على نفي الحصار وتأكيد حضوره الميداني، يعيش السكان حالة من القلق والارتباك".
وأكد ديارا أن "المطلوب ليس فقط عمليات عسكرية، بل تأمين الطرق التجارية بشكل مستدام، وتقديم أدلة ملموسة على السيطرة".
في حين اعتبرت تراوري أن "صوت السكان المحليين يجب أن يكون جزءا من الخطاب الرسمي، وإلا ستبقى الفجوة بين الواقع والكلام الرسمي واسعة".