موريتانيا.. خارطة سياسية جديدة تؤكد انهيار الإخوان
الحراك السياسي المواكب لاستحقاقات الرئاسية المنصرمة يرسم ملامح مشهد سياسي جديد في موريتانيا.
فيما كان الحراك السياسي المواكب لاستحقاقات الرئاسية المنصرمة يرسم ملامح مشهد سياسي جديد في موريتانيا، كانت رسائل الميدان السياسي تنبئ بتغيرات جوهرية، ستؤدي إلى بروز كتل سياسية جديدة، وضمور قوى سياسية تقليدية تربعت بشخوصها ومؤسساتها الحزبية ردحا من الزمن على عرش المعارضة وغادرت المشهد قبل أن تحقق الحلم وهو الوصول للسلطة.
واليوم وبعد انصهار القوى السياسية في بوتقة السجال الانتخابي على مدى الأشهر الأربعة الأخيرة، ظهرت ملامح الشكل الجديد لمشهد سياسي مخيب لآمال قوى كان ينظر إليها كممثل للمعارضة حصري، خصوصا بعد ظهور نتائج الاستحقاقات الرئاسية ومعرفة النسب التي دعمت بها أحزاب المعارضة مرشحيها.
انهيار الإخوان
كانت بداية الاستقطاب بين المتنافسين الستة على كرسي الرئاسي، الذي حسم لصالح الرئيس المنتخب محمد الشيخ الغزواني، كاشفة حالة الانهيار والتصدع التي وصلت مرحلة التفكك لجماعة الإخوان وذراعها الحزبي "تواصل"، التي كانت تحتمي بالمعارضة السياسية، فعجّلت التناقضات البنيوية التي أقام عليها التنظيم أصلا مشروعه السياسي، بالانهيار وكانت الضربة الأولى الخلاف مع المعارضة ذاتها من خلال نكث التنظيم بالمواثيق والعهود التي وقعها مع المعارضة لدعم مرشح موحد للرئاسيات، بل محاولة التنظيم التودد للرئيس المنتخب (المرشح حينها) محمد ولد الشيخ الغزواني، قبل أن يرفض الأخير هذا التودد ويرد كيد تلك المحاولات إلى نحور أصحابها.
أما الإخفاق الثاني من سلسلة الإخفاقات التي كانت وراء الفشل السياسي للتنظيم فهو دعم حزبهم "تواصل" للمرشح الوزير الأول سيدي محمد ولد بوبكر، المحسوب على نظام الرئيس الأسبق ولد الطايع الذي كان قد ضرب بيد من حديد التنظيم في بدايات نشأته الأولى في التسعينيات، وهو ما جعل الإخوان يواجهون انتقادات لاذعة من المعارضة ومن خلال بعضهم، ما أدى إلى تسارع موجة الانشقاقات وتوسعها بعد أن كانت هذه الانشقاقات قد بدأت قبل ذلك بأشهر.
كان نزيف الانشقاقات شبه اليوم من حزب التنظيم "تواصل" بين صفوف الكوادر والقيادات المؤسسة والأطر ورجال الأعمال والمنتخبين المحليين والجهويين، والكتل الشعبية والشبابية، مؤشرا على استفحال الأزمة وخروجها على السيطرة، خصوصا أن هذه الانشقاقات كانت باتجاه الرئيس المنتخب (المرشح حينها) محمد ولد الشيخ الغزواني، ما قلل من أهمية دعم التنظيم لحليفه الجديد ولو بوبكر، في عيون مرشحهم وحلفائهم وأفقدهم أي وسيلة للسيطرة على المرشح وحملته الانتخابية التي ظلت بيد أنصار الرئيس الأسبق ولد الطايع.
الإخفاقات وحالة الانهيار والتفكك التي ضربت التنظيم عكستها نتائج الانتخابات الرئاسية على مستوى الدوائر، فكانت الصفعة الأقوى من نواكشوط العاصمة، والحاضنة لربع القوة التصويتية في البلد، التي خرج التنظيم انتخابيا وهو يجر أذيال الهزيمة من جميع مقاطعاتها التسعة بعد أن كان قد تقدم خلال الانتخابات النيابية الأخيرة في اثنين منها، في حين كانت الصفعة الأقوى حين تراجع المرشح الذي حظي بدعم التنظيم إلى جانب قوى سياسية أخرى إلى المرتبة الثالثة، عكس التوقعات التي كانت تعطيه المرتبة الثانية بعد الرئيس المنتخب، وما كان ذلك إلا بسبب تآكل الدعم الانتخابي الذي كان ينتظره من الإخوان إثر موجة الانشقاقات والانهيارات السالفة الذكر.
الضربة الأقوى التي واجهت التنظيم، على خلفية الاستحقاقات الرئاسية الأخيرة، لم تكن انتخابية فحسب بل مست صميم التماسك الداخلي لحزب التنظيم، وذلك عندما أدى الموقف المتخاذل والمرتبك للإخوان من نتيجة فوز الرئيس المنتخب محمد ولد الغزواني إلى إحداث شرخ بين رئاسة الحزب التي آثرت عدم الاعتراف، وقواعد وقيادات الحزب التي لم ترضَ بهذا الموقف السلبي الذي يناقض ما هو متوفر لدى الحزب من نتائج تؤكد صحة نتائج الرئاسيات التي كشفتها لجنة الانتخابات المستقلة.
النتيجة الانتخابية نفسها التي أظهرت حالة الانهيار والانفضاض الشعبي من حول التنظيم، عكست تراجعا بل وانهيار تيارات سياسية معارضة موريتانية أخرى كان يوما ما في السابق تتصدر جبهة المعارضة، مثلما هو الحال مع المعارضة الليبرالية بزعامة حزب "تكتل القوى الديمقراطية" الموريتاني ورئيسه المعارض التاريخي أحمد ولد داداه الذي نافس رئيس موريتانيا السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في انتخابات 2007 الرئاسية وحصل في الشوط الثاني لتلك الانتخابات السابقة على 48% من أصوات الناخبين.
ورغم أن ولد داداه لم يستطع خوض غمار رئاسيات 2019 بسبب السن القانونية إلا أن حزبه "التكتل" دعم مرشحا معارضا يحمل معه التوجه المعارض نفسه ويشتركان في تاريخهما النضالي هو المرشح محمد ولد مولود رئيس حزب "اتحاد قوى التقدم" المحسوب على اليسار، لتكون النتيجة التي حققها الحزبان الممثلان للمعارضة التقليدية الموريتانية مخيبة للآمال وبالكاد تصل إلى 2% من أصوات الناخبين بدل 48% التي كان قد حصدها مرشح الحزبين في انتخابات 2007 الرئاسية.
صعود المعارضة الحقيقية
وفيما كانت المعارضة التقليدية ومعها الإخوان تتردى في هاوية سحيقة من الفشل والانهيار وفق ما عكسته القراءة المتأنية لنتيجة الرئاسيات، كانت النتائج نفسها توثق صعود تيار معارض موريتاني جديد يتكئ على خلفية حقوقية، هو المرشح الذي حلَّ ثانيا في الرئاسيات الناشط الحقوقي والمعارض بيرام ولد أعبيد، رئيس ما كان يعرف بالتيار الانعتاقي "الإيرا"، الذي دخل معترك العمل السياسي سنة 2018 من بوابة حزب "الصواب" الموريتاني ذي الميول البعثية، ويتربع بهذه المكانة الجديدة على عرش المعارضة، بنتيجة قاربت الـ18% من أصوات الناخبين.
جدارة المرشح بيرام بهذا الموقع الجديدة ازدادت في نظر المراقبين عندما وقف في وجه استغلال التذمر من نتيجة هذه الانتخابات لضرب أمن البلد وتخريب ممتلكات الموطنين، غداة إعلان النتائج، داعيا أنصاره إلى إلغاء أي مظاهر الاحتجاج السلمي حتى لا يتم استغلاله ضد أمن البلد.
دعوة للسلم ونبذ للعنف وخطاب الكراهية، ويد ممدودة للحكومة والرئيس المنتخب من أجل الحوار، مواقف تبناها المرشح بيرام عكست تغيرا جوهريا في خطابه السياسي المعروف أصلا بالحدة، أكسبته المزيد من الثقة والتأييد حتى من خارج جماهير تياره الحقوقي وحزبه المعارض.
الخطاب والتوجهات التصالحية ونبرة الخطاب السياسي، لم تكسب الزعيم المناضل المعارض بيرام قبولا في الساحة السياسية فحسب، بل جعلته الوجه الأولى- وربما الوحيدة- للحكومة والأغلبية في أولى محطات الحوار التي وردت في برنامج الرئيس المنتخب محمد ولد الغزواني، ودعا له المرشح بيرام غداة إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
لقاءات أولية بين المرشح بيرام والحكومة كمقدمة وتمهيد لحوار وطني شامل في الأيام القادمة، تعكس هي الأخرى جانبا من شكل الخريطة السياسية لموريتانيا ما بعد الانتخابات الرئاسية.
فرغم أن هذه اللقاءات لا تخص طرفا معارضا بل ستشمل بقية أطياف المعارضة وفق ما جاء في تصريحات بيرام والوزير الناطق باسم الحكومة، ورغم المرشح بيرام كان في للقاء التمهيدي يتحدث باسم أقرانه في المعارضة إلا أن ردود فعل بقية أقرانه من مرشحي المعارضة، على لقاء بيرام والحكومة، كشفت نكوصا لهذه المعارضة عن الحوار، ومحاولة لوضع عصي في دواليب في جهود الحوار التي بدأها بيرام والحكومة. رغبة ربما لإفشالها، أو دفعا أكثر للمعارض القوي الجديد "بيرام" للارتماء في احتضان الأغلبية، وبالتالي إخلاء ساحة العمل المعارضة من جديد للأوجه المعارضة نفسها التي كان تهمين عليه في السابق.
ومهما يكون من أمر إعادة التشكل والتموقع للقوى السياسية، بفعل نتيجة الحوار المرتقب، ونتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فإن المؤكد أن خارطة المشهد السياسي الموريتاني لم تعد كما كانت، بعد خروج مارد المعارضة الجديدة من قمقمه، والتحاق قوى مؤثرة سابقا في المعارضة بصف الأغلبية الحاكمة والرئيس الجديد، وهو تحول وتغير عنوانه الأبرز عزلة متزايدة للإخوان وانهيار لمعسكر المعارضة التقليدية التي كان يقودها الليبراليون وقوى اليسار.
aXA6IDE4LjIyNi4yMjYuMTUxIA== جزيرة ام اند امز